.
يا ليتني أعطيت القرآن عمري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
عبر الأئمة الأعلام عن أسفهم على تضييع أوقاتهم في غير معاني القرآن، قال الثوري: ((ليتني كنت اقتصرت على القرآن))(1).
وقال ابن تيمية، وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، ولعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين، وقد بقي يفسر (سورة نوح) عدة سنين، قال في سجنه الأخير: ((قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المدَّة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء مات كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن))([2]).
وقال العلامة الفراهي: ((ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث، وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين خمسين وستين من عمري، فيا أسفا على عمر ضيعته في أشغال ضرها أكبر من نفعها ! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان))([3]).
وقال الشيخ المحدث الفاضل أبو إسحاق الحويني باكيًا: ((فترةَ مُنعنا من ارتياد المساجد كانت فترة مباركة أن يعيد الإنسان قراءة القرآن مرة أخرى ... لما أتيح لنا أن نخلو بكتاب ربنا وبسنة نبينا انكشف كثير من الغطاء .. كثير من الآيات كان الواحد يقرأها ولا يقف كثيرًا عند معانيها، تسنى لي أن أجلس وأن أفعل هذا .. فيا ليتني أعطيت القرآن عمري)).
فينبغي على العاقل أن يبدأ رحلته مع القرآن، وأن يترقى في معايشة القرآن والانتفاع بنوره وهديه .
وكتقريب للأمر، فإن تحصيل صحبة القرآن الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت»(4)، وقوله: ((يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه))(5) = لها شرطان:
الأول: شرط علمي .
الثاني: شرط عملي .
أولًا الشرط العلمي .
وهذا الشرط يحتوي على ثلاث مستويات:
المستوى الأول: معرفة المهم من علوم القرآن .
ومما يعين على تحصيل هذا الشرط:
1- برنامج (تاج الكرامة)، التابع لمركز آيات .
2- كتاب: (الدليل إلى القرآن)، عمرو الشرقاوي، المكتبة العصرية، وله شرح على موقع: (إنه القرآن).
3- كتاب: (مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف)، د. حازم حيدر، معهد الإمام الشاطبي، وله شرح مرئي عليه .
المستوى الثاني: معرفة المهم من قواعد التجويد .
ومما يعين على تحصيل هذا الشرط:
الأفضل الالتزام بشيخ أو معلمة، في دور القرآن أو خارجها، ولمن لا يقدر على ذلك، فيمكنه أن يسلك التالي:
1- برنامج (تاج الكرامة)، التابع لمركز آيات .
2- حلقات (أساسيات التجويد)، د. صفوت سالم، أكاديمية زاد .
3- كتاب (التجويد المصور)، د. أيمن سويد، مع شرحه له .
كل هذا: مع سماع القرآن من مصاحف متقنة التلاوة مثل: مصحف الشيخ الحصري رحمه الله .
المستوى الثالث: معرفة المهم من الألفاظ والتراكيب .
ونحن نقترح عليه عدة ختمات ينتفع بها في معرفة الألفاظ والتراكيب:
1- ختمة غريب القرآن، من كتاب: (السراج في بيان غريب القرآن)، للشيخ محمد الخضيري، كرسي القرآن الكريم وعلومه .
2- ختمة محتويات السور والآيات، من كتاب: (محتويات سور القرآن)، للشيخ أحمد محمد الطويل، مدار الوطن .
3- ختمة المعنى الإجمالي، من كتاب: (المختصر في التفسير)، إعداد مركز تفسير للدراسات القرآنية .
- أو دورة (الأترجة) كبديل صوتي مناسب .
ولو لم يسعف الوقت، فليقتصر على المفصل من القرآن، وهو: من سورة (الحجرات) إلى سورة (الناس).
ومن متممات هذا الشرط، أن يحفظ الإنسان المفصل من القرآن، ففيه خير عظيم، ويعينه على الاستمتاع بتلاوة الكتاب في الصلاة عن ظهر غيب .
ثانيًا: الشرط العملي .
ويؤخذ هذا الشرط من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ٩١ وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ٩٢﴾ [النمل: 91-92]، وقال سبحانه: ﴿قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ١٩﴾ [الأنعام: 19]، وقال: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ وَلَا يَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ٤٥﴾ [الأنبياء: 45].
فتلاوة القرآن، والإنذار به انفعال، وهذا الانفعال لا بد أن يسبق بالامتلاء من الوحي !
والسبيل إلى الامتلاء الذي يسبق الانفعال، يمكننا إجماله في معالم ثلاثة:
المعلم الأول: المحبة .
لقد كان النبي يحب نزول الوحي عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟»، قال: فنزلت: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا} [مريم: 64] الآية(6).
وقد انعكس هذا المعلم على الصحابة، عن أنس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء. فجعلا يبكيان معها))(7).
المعلم الثاني: التعاهد .
ويشتمل على أمور:
1- التلاوة .
أشار الله سبحانه وتعالى إلى أفضل طرق المعاهدة، والتي ينبغي لحافظ القرآن الاعتناء بها، وهي قيام الليل بالمحفوظ من القرآن، قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79]، وإن الليل مظنة الحضور والفهم وصفاء النفس وتفريغ القلب من العلائق والشواغل.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو المخاطب بذلك، وبقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1-4].
عن حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبا من قيامه(8).
عن عبد الله بن مغفل، قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله، وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح - أو من سورة الفتح - قراءة لينة يقرأ وهو يرجع»(9).
2- الاستماع .
عن عبد الله، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي القرآن» قال: فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك؟ وعليك أنزل؟ قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري»، فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [سورة: النساء، آية رقم: 41] رفعت رأسي، أو غمزني رجل إلى جنبي، فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل(10).
عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك»، قال: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي»، قال: فجعل أبي يبكي(11).
3- التدارس .
عن ابن عباس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»(12).
حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم»[13].
المعلم الثالث: التأول .
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن(14).
قال النووي: ((يعمل ما أُمر به))(15).
وسئلت عائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «ألست تقرأ القرآن؟» قلت: بلى، قالت: «فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن»(16)، وفي لفظ: ((كان خلقه القرآن، تقرؤون سورة المؤمنين؟ قالت: اقرأ: {قد أفلح المؤمنون}، قال: يزيد فقرأت {قد أفلح المؤمنون} إلى {لفروجهم حافظون}))(17)، وفي لفظ: ((كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه))(18).
قال ابن رجب: ((تعني: أنَّه كان تأدَّب بآدابه، وتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآنُ، كان فيه سخطه))(19).
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، قال ابن القيم: ((وهذه من أعظم آيات نبوَّتِهِ ورسالته، لمن مَنَحَهُ اللهُ فهمها .. فهذه كانت أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقتبسة من مشكاة القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن؛ تفصيلاً له وتبيينًا، وعلومُهُ علوم القرآن، وإراداتُهُ وأعمالُهُ ما أوجبَهُ ونَدَبَ إليه القرآنُ، وإعراضُهُ وتَرْكُه لما مَنَعَ منه القرآنُ، ورَغْبَتُهُ فيما رغَّبَ فيه، وزُهْدُه فيما زهَّدَ فيه، وكراهته لما كَرِهَهُ، ومحبته لما أحبَّهُ، وسَعْيُهُ في تنفيذ أوامره، وتبليغِهِ، والجهادِ في إقامته.
فترجَمَتْ أُمُّ المؤمنين - لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن تعبيرها - عن هذا كلِّه بقولها: "كان خُلُقُهُ القرآنُ"، وفَهِمَ السائلُ عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى))(20).
(1)علل، لأحمد: (1083).
(2) الجامع لسيرة شيخ الإسلام: (465)، (669)، (284)، (268).
(3) مجلة الضياء، نقلًا عن مقدمة مفردات القرآن: (20).
(4) رواه البخاري: (5031)، ومسلم: (789).
(5) رواه أحمد: (10087)، (11360).
(6) رواه البخاري: (7455).
(7) رواه مسلم: (2454).
(8) رواه مسلم (772).
(9) رواه البخاري: (5047).
(10) رواه البخاري: (5055)، ومسلم: (800).
(11) رواه البخاري: (4959)، ومسلم: (799).
ولفظ البخاري: عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» قال أبي: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي» فجعل أبي يبكي، قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1].
(12) رواه البخاري: (6).
(13) رواه البخاري: (3429).
(14) رواه البخاري: (817)، ومسلم: (484).
(15) شرح مسلم: (4/ 201).
(16) رواه مسلم: (746).
(17) رواه البخاري في الأدب المفرد: (308).
(18) شعب الإيمان: (3/ 23).
(19) جامع العلوم والحكم: (413).
(20) التبيان: (317).