لطائف من ترجمة الإمام الطبري من معجم الأدباء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين؛
إن المحبة رزق يرزقه الله تعالى العبد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حبه خديجة: ((إني رزقت حبها)) !
وقد كنت قبل أن أدرج طريق الطلب لعلم التفسير ممن رزق حب ثلة من العلماء، تعلق القلب بهم - وإن لم يعرف كثيرًا عن سيرتهم -، أحببتهم لما عرفته عن سيرتهم وشمائلهم مما سمعته هنا أو هناك، تعلق قلبي بهم وبمحبتهم حبًا يمثل ميلًا قلبيًا للتعرف عليهم، كيف كانوا وكيف عاشوا .
من هذه الأسماء، الشافعي - البخاري - الطبري - ابن تيمية !
ولما من الله علي ودرست علم التفسير، كان أكثر اسم يتردد على سمعي اسم الإمام الطبري رحمه الله تعالى، وازداد تعلقي به لكثرة ذكر شيخنا أبي عبد الملك له، ولا يخفى على محب ما يكنه الشيخ من حب وإعجاب بالإمام الطبري !
ولما كانت أوسع ترجمة وأوفاها للإمام رضي الله عنه ترجمة ياقوت الحموي في معجم الأدباء، رأيت أن أرتبها في محاولة للتعريف ببعض الجوانب المتعلقة بحياة الطبري رحمه الله .
ولم أتدخل إلا بالعنونة فحسب .
- أبو جعفر !
هو الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، أبو جعفر الطبري المحدث الفقيه المقرئ المؤرخ المعروف المشهور: مات فيما ذكره أبو بكر الخطيب يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة (ت: 310) ودفن يوم الأحد بالغداة في دار برحبة يعقوب، ولم يغير شيبه، وكان السواد في شعر رأسه ولحيته كثيرا. ومولده سنة أربع أو أوّل سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان أسمر الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان.
استوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته.
وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله عز وجل، عارفا بالقرآن بصيرا بالمعاني، فقيها بأحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله.
- همة أبي جعفر:
قال الخطيب: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كلّ يوم منها أربعين ورقة، قال: وقال أبو حامد الاسفرائني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه.
وحدث عن القاضي أبي عمر عبيد الله بن أحمد السمسار وأبي القاسم بن عقيل الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال:
إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر التفسير.
وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف «كتاب الصلة» وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوما من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم الى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق.
- نهمته في طلب العلم:
قال أبو جعفر: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج الينا في الليل مرات ويسأل عما كتبناه ويقرؤه علينا، قال: وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري بينها وبين الري قطعة، ثم نعدو كالمجانين حتى نصير الى ابن حميد فنلحق مجلسه. وكتب عن أحمد بن حماد «كتاب المبتدإ والمغازي» عن سلمة بن المفضل عن محمد بن إسحاق وعليه بنى تاريخه. ويقال إنه كتب عن ابن حميد فوق مائة ألف حديث.
- أصحاب أبي جعفر:
عن أبي العباس البكري من ولد أبي بكر الصديق قال: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونهم وأضرّ بهم الحال، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أن يستهموا فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصيّ من قبل والي مصر يدقّ عليهم، فأجابوه وفتحوا له الباب، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا، وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا ودفعها إليه، وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين دينارا، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرة فيها خمسون دينارا ثم قال: إن الأمير كان قائلا فرأى في النوم خيالا أو طيفا يقول له: إن المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.
- علم أبي جعفر:
كان أبو كريب - أحد شيوخ أبي جعفر - شرس الخلق من كبار أصحاب الحديث، قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث، فاطّلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجّون، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلي وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه، قال قلت: نعم، فقالوا: هذا فسله، فقلت: حدثتنا في كذا بكذا وفي يوم كذا بكذا. قال: وأخذ أبو كريب في مسألة إلى أن عظم في نفسه فقال له: ادخل إليّ، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته، ومكّنه من حديثه. وكان الناس يسمعون به فيقال إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، ثم عاد إلى مدينة السلام فكتب بها ولزم المقام بها مدة وتفقه بها وأخذ في علوم القرآن.
صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم، فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم، ثم عاد إلى الشام، ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن علي بن سراج المصري، وكان متأدبا فاضلا في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه وتعرض له، فوافى أبو جعفر إلى مصر وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه والحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن ابن سراج فوجده فاضلا في كلّ ما يذاكره به من العلم، ويجيب في كلّ ما يسأله عنه، حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلا بارعا فيه، فسأله عن شعر الطرمّاح وكان من يقوم به مفقودا في البلد، فإذا [هو] يحفظه، فسئل أن يمليه حفظا بغريبه فعهدي به وهو يمليه عند بيت المال في الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني، فتكلما في أشياء منها الكلام في الاجماع، وكان أبو جعفر قد اختار من مذاهب الفقهاء قولا اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في مدينة السلام على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني عنه، ودرسه في العراق على جماعة منهم أبو سعيد الاصطخري وغيره، وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط.
وقال أبو بكر ابن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن نقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمرو بن العلاء الكبير، فوجدنا نتناظر في بسم الله الرحمن الرحيم مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا، وكان المجلس حفلا بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي، فقال لي:
كسائي فيم أنتم؟ فعرّفته، فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت: على مذهب أبي جعفر الطبري، فقال: رحم الله أبا جعفر حدّثنا بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في بسم الله الرّحمن الرّحيم، ثم أخذ أبو بكر ابن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه والشافعيون حضور يسمعونه، ولم يذكر مما جرى بينهما شيئا.
قال عبد العزيز بن هارون: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضيا إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت: يا أبا جعفر ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد الله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثا، وأغرب عليّ ثمانية عشر حديثا. قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر ابن سهل الدينوري، وكان من العلماء والحفاظ للحديث، فحدثته بذلك فقال: كذب والله الذي لا إله إلا هو، لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي، ودعا معه أهل العلم وكنت حاضرا ومعنا ابن حمدان، فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من «الاختلاف» فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء، فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثا وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثا. قال: وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر هذا خطأ من جهة كذا ومثلي لا يذاكر به، فيخجل وينقطع.
وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحا في علوم القرآن والقراءات، وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك، واختلاف الفقهاء مع الرواية كذلك على ما في كتابه «البسيط» و «التهذيب» و «أحكام القراءات» من غير تعويل على المناولات والاجازات ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبرا عن حاله فيه، وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به. وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دلّ عليه كتابه «في آداب النفوس» وكان يحفظ [من] الشعر للجاهلية والاسلام ما لا يجهله إلا جاهل به.
- ثناء الناس عليه:
وقال أبو بكر ابن المجاهد، قال أبو العباس يوما: من بقي عندكم- يعني في لجانب الشرقي ببغداد- من النحويين؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ، فقال:
حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه، فقال لي: ابن جرير؟
قلت: نعم، قال: ذاك من حذّاق الكوفيين. قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير، لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه.
وقال عبد العزيز بن محمد: قنطرة البردان محظوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عبيد القاسم بن سلام ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان فيها علّان الأزدي ومسجده في هذا الموضع معروف به، وكان أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان فاضلا مسجده عند مسجد أبي عبد الله الكسائي، وكان بها أبو عبيد الله محمد بن يحيى الكسائي وعنه انتشرت رواية أبي الحارث عن الكسائي وقرأ عليه كبار الناس، ونزلها أبو جعفر الطبري وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون أبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطا وافرا يدلّ عليه كلامه من الوصايا. وكان ظلفا «1» عن الدنيا تاركا لها ولأهلها يرفع نفسه عن التماسها، وكان كالقارىء الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحويّ الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عاملا للعبادات جامعا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلا على غيرها.
قال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه، وكان أفضل من رأيناه فهما وعناية بالعلم ودرسا له، ولقد كان لعنايته بدرس العلم تعبى كتبه في جانب حارته ثم يبتدىء فيدرس الأول فالأول منها إلى أن يفرغ منها، وهو ينقلها إلى الجانب الآخر، فإذا فرغ منها عاد في درسها ونقلها إلى حيث كانت، فقال يوما: ما عمل أحد في تاريخ الزمان وحصر الكلام فيه مثل ما عمله أبو جعفر؛ قال ولقد قال لي أبو الحسن ابن المغلس يوما وهو يذاكرنا شيئا من العلم وفضل العلماء فقال: والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره، وذكر رجلا كبيرا من أهل العلم.
- ورعه وحسن تأدبه، وعبادته:
قال: وكان شديد التوقي والحذر والنزاهة والورع، يدلّ على ذلك ما أودعه «كتاب آداب النفوس» المنبه على دينه وفضله. ومع ما كان فيه من الاشتغال بالتصانيف والحديث والاملاء لا بد له مع ذلك من حزبه من القرآن، ويقال إنه كان يقرأ كلّ ليلة ربعا أو حظا وافرا.
كان ربما ناظر داود بن علي الأثبات في المسألة في الفقه فيراه مقصرا في الحديث فينقله إليه، أو يكلمه في الحديث فينقله إلى الفقه، أو إلى الجدل إذا كان خصمه مقصرا فيهما، وكان هو مقصرا في النحو واللغة وإن كان عارفا بقطعة منه، وكان أبو جعفر مليا بما نهض فيه من أيّ علم كان، وكان متوقفا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، وكان يحبّ الجدّ في جميع أحواله، وجرت مسألة يوما بين داود بن علي وبين أبي جعفر، فوقف الكلام على داود بن علي، فشق ذلك على أصحابه وكلّم رجل من أصحاب داود بن علي أبا جعفر بكلمة مضة، فقام من المجلس وعمل هذا الكتاب، وأخرج منه شيئا بعد شيء إلى أن أخرج منه قطعة نحو مائة ورقة، وكان ابتدأ الكلام فيه بخطبة من غير إملاء، وهو من جيد ما عمله أبو جعفر ومن أحسنه كلاما فيه حملا على اللغط عليه، ثم قطع ذلك بعد ما مات داود بن علي فلم يحصل في أيدي أصحابه من ذلك إلا ما كتبه منه مقدمو أصحابه ولم ينقل. فممن كتب هذا الكتاب منه أبو إسحاق ابن الفضل بن حيان الحلواني، قال أبو بكر ابن كامل وسمعناه منه عنه، وأبو الطيب الجرجاني وأبو علي الحسن بن الحسين بن الصواف وأبو الفضل العباس بن محمد بن المحسن وغيرهم. وقال الرواسي، وكان من مقدمي أصحاب داود بن علي: إن داود قطع كلام ذلك الإنسان الذي كلم أبا جعفر سنة مجازاة له على ما جرى منه على أبي جعفر.
ثم تعرض محمد بن داود بن علي للردّ على أبي جعفر فيما ردّه على أبيه، فتعسّف الكلام على ثلاث مسائل خاصة، وأخذ في سبّ أبي جعفر، وهو كتابه المنسوب إلى الرد على أبي جعفر ابن جرير. قال أبو الحسن ابن المغلس، قال لي أبو بكر ابن داود بن علي: كان في نفسي مما تكلّم به ابن جرير على أبي، فدخلت يوما على أبي بكر ابن أبي حامد، وعنده أبو جعفر، فقال له أبو بكر: هذا أبو بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني، فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحّب بي وأخذ يثني على أبي ويمدحه ويصفني بما قطعني عن كلامه.
- أدب أبي جعفر:
قال أبو بكر ابن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني فلم يذكرها لأنه كان أفضل من أن يرفع نفسه وأن يذكر [علوّه] على خصم في مسألة. وكان أبو جعفر يفضّل المزني فيطريه ويذكر دينه، وقال: جفا [عليّ] بعض أصحابه في مجلسه، فانقطعت عنه زمانا، ثم إنه لقيني فاعتذر إليّ كأنه قد جنى جناية ولم يزل في ترفّقه وكلامه حتى عدت إليه. وبلغنا أنه سئل بالفسطاط أن يردّ على مالك في شيء فردّ عليه في شيء كان الكلام فيه لابن عبد الحكم، وكانت أجزاء ولم تقع في أيدينا، ولعله مما منع الخصوم نشره.
- تواضع أبي جعفر، وتودده لطلابه:
قال أبو بكر ابن كامل: جئت الى أبي جعفر قبل المغرب ومعي ابني أبو رفاعة وهو شديد العلة، فقال لي: هذا ابنك ؟ فقال قلت: نعم، قال: ما اسمه؟ قلت: عبد الغني، قال: أغناه الله، وبأي شيء كنيته؟ قلت: بأبي رفاعة، قال: رفعه الله، أفلك غيره؟ قلت: نعم أصغر منه، قال: وما اسمه؟ قلت: عبد الوهاب أبو يعلى، قال: أعلاه الله، لقد اخترت الكنى والأسماء. ثم قال لي: كم لهذا سنة؟ قلت: تسع سنين، قال: لم لم تسمعه مني شيئا؟ قلت: كرهت صغره وقلة أدبه، فقال لي: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه، فقال له المعبر: إنه إن كبر نصح في دينه وذبّ عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
وقال أبو العباس ابن المغيرة الثلاج: لما اعتل ابني أبو الفرج، وكان حسن الأدب ويتفقه على مذهب أبي جعفر، قال لي أبو جعفر: تقبل مني ما أصفه لك؟
فقلت: نعم، وكنت أتبرك بقوله ورأيه، قال: احلق رأسه واعمل له جوذاية سمينة من رقاق وأكثر دسمها وقدّمها إليه وأطعمه منها حتى يمتلىء شبعا، ثم خذ ما بقي فاطرحه على دماغه واحرص أن ينام على حاله تلك، فإنه يصلح إن شاء الله تعالى، ففعلت فكان سبب برئه.
وأبو الفرج هذا مات قبل أبي جعفر بمديدة، وكان أبو الفرج هذا يتعسف في كلامه: تجاروا يوما عند أبي جعفر فذكر الطبيخ فقال أبو الفرج: لكني أكلت طباهقة، قال أبو جعفر: وما الطباهقة؟ قال الطباهجة، ألا ترى أن العرب تجعل الجيم قافا. فقال أبو جعفر: فأنت إذا أبو الفرق ابن الثلّاق، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق، ويمزح معه بذلك.
وكان أبو بكر ابن الجواليقي يأخذ لسانه بالإعراب ويكثر الإشارات فيه إلى حدّ البغض، فأخذ يوما في ذلك، فقال أبو جعفر: أنت بغيض، فسمي بغيض الطبري، قال: ورأيت أنا هذا الانسان يوما وقد ورد إلى باب الطاق وكان مهاجرا لبعض الوراقين، فوقف علينا فسلم ثم اعتذر من وقوفه بالمكان لأجل الوراق، فقال: لولا من ما كنت بالذي (يعني لولا من هاهنا ما كنت لأقف على حانوتك) .
- علمه بالطب:
كان بأبي جعفر ذات الجنب تعتاده وتنتقض عليه، فوجه إليه عليّ بن عيسى طبيبا، فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله فعرّفه حاله وما استعمل وأخذ لعلته، وما انتهى إليه في يومه ذاك، وما كان رسمه أن يعالج به، وما عزم على أخذه من العلاج، فقال له الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيء، والله لو كنت في ملتنا لعددت من الحواريين، وفقك الله. ثم جاء إلى علي بن عيسى فعرفه ذلك فأعجبه.
- معاملته:
وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: أخبرني غير واحد من أصحابنا أنه رأى عند أبي جعفر شيخا مسنّا، فقام له أبو جعفر وأكرمه، ثم قال أبو جعفر: إن هذا الرجل ناله فيّ ما قد صار له عليّ به الحقّ الكثير، وذلك أني دخلت إلى طبرستان، وقد شاع سبّ أبي بكر وعمر فيهما، فسألوني أن أملي فضائلهما ففعلت، وكان سلطان البلدة يكره ذلك، فاجتمع إليه من عرّفه ما أمليته، فوجّه إليّ، فبادر هذا وأرسل إليّ من أخبرني أني قد طلبت، فخرجت من وقتي عن البلد ولم يشعر بي، وحصل هذا في أيديهم فضرب بسببي ألفا.
- قراءة أبي جعفر، وكتابه في القراءات:
وحدث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ في «كتاب الاقناع» في إحدى عشرة قراءة قال: كان أبو جعفر الطبري عالما بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة الا أنه كان بخطوط كبار ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ، وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور ولم يكن منتصبا للاقراء ولا قرأ عليه أحد إلا آحاد من الناس كالصفار شيخ كان ببغداد من الجانب الشرقي يروي عنه رواية عبد الحميد بن بكار عن ابن عامر. وأما القراءة عليه باختياره فإني ما رأيت أحدا أقرأ به غير أبي الحسين الجبّي وكان ضنينا به، ولقد سألته زمانا حتى أخذ عليّ به وقال: ترددت إلى أبي جعفر نحوا من سنة أسأله ذلك زمانا حتى أجرمت عليه وسألته، وكنت قد سمعت منه صدرا من كتبه فأخذه عليّ على جهته وقال: لا تنسبها إليّ وأنا حي، فما أقرأت بها أحدا حتى مات رحمه الله في شوال سنة عشر وثلاثمائة. وقال أبو الحسين الجبي: ما قرأ عليه به إلا اثنان وأنت ثالثهم، ولا قرأ عليه أحد إلى أن مات سنة ثمانين وثلاثمائة.
ومن كتبه: كتاب الفصل بين القرأة، ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن، وهو من جيد الكتب، وفصل فيه أسماء القراء بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وغيرها، وفيه من الفصل بين كل قراءة، فيذكر وجهها وتأويلها والدلالة على ما ذهب إليه كل قارئ لها، واختياره الصواب منها، والبرهان على صحة ما اختاره، مستظهرا في ذلك بقوته على التفسير والاعراب الذي لم يشتمل على حفظ مثله أحد من القراء، وان كان لهم رحمهم الله من الفضل والسبق ما لا يدفع ذو بصيرة، بعد أن صدّره بخطبة تليق به، وكذلك كان يعمل في كتبه: أن يأتي بخطبته على معنى كتابه، فيأتي الكتاب منظوما على ما تقتضيه الخطبة، وكان أبو جعفر مجوّدا في القراءة موصوفا بذلك يقصده القراء البعداء ومن الناس للصلاة خلفه يسمعون قراءته وتجويده.
وقال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد، وقد كان لا يجري ذكره إلا فضله: ما صنف في معنى كتابه مثله. وقال لنا: ما سمعت في المحراب أقرأ من أبي جعفر، أو كلاما هذا معناه. قال ابن كامل: وكان أبو جعفر يقرأ قديما لحمزة قبل أن يختار قراءته.
- حسن تعليمه:
وكان عند أبي جعفر رواية ورش عن نافع عن يونس بن عبد الأعلى عنه، وكان يقصد فيها، فحرص على ما بلغني أبو بكر ابن مجاهد مع موضعه في نفسه وعند أبي جعفر أن يسمع منه هذه القراءة منفردا، فأبى إلا أن يسمعها مع الناس، فما أثر ذلك في نفس أبي بكر، وكان ذلك كرها من أبي جعفر أن يخصّ أحدا بشيء من العلم، وكان في أخلاقه ذلك، لأنه كان إذا قرأ عليه جماعة كتابا ولم يحضره أحدهم لا يأذن لبعضهم أن يقرأ دون بعض، وإذا سأله إنسان في قراءة كتاب وغاب، لم يقرئه حتى يحضر، إلا كتاب الفتوى فانه كان أيّ وقت سئل عن شيء منه أجاب فيه. وكتابه في القراءات يشتمل على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لأنه كان عنده عن أحمد بن يوسف الثعلبي عنه وعليه بنى كتابه.
- تفسير أبي جعفر:
وحدث فيما أسنده الى أبي بكر ابن بالويه قال، قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق، يعني ابن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير، قلت:
نعم كتبنا التفسير عنه إملاء، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة؟ قلت من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين، قال: فاستعاره مني أبو بكر وردّه بعد سنين، ثم قال: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة؛ قال: وكانت الحنابلة تمنع منه ولا تترك أحدا يسمع عليه.
ومن كتبه: كتابه المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن، قال أبو بكر ابن كامل: أملى علينا كتاب التفسير مائة وخمسين آية ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره.
وحمل هذا الكتاب مشرقا ومغربا وقرأه كل من كان في وقته من العلماء وكلّ فضّله وقدمه.
قال أبو جعفر: حدثتني به نفسي وأنا صبي.
قال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو عمر الزاهد يعيش زمانا طويلا بمقابلة الكتب مع الناس، قال أبو عمر: فسألت أبا جعفر عن تفسير آية فقال: قابل بهذا الكتاب من أوله إلى آخره [قلت: فقابلت] فما وجدت فيه حرفا واحدا خطأ في نحو ولا لغة.
قال أبو جعفر: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جسر ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفا بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب.
وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول: إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته.
- مروءته وحسن أخلاقه ونبله:
قال عبد العزيز بن محمد: وكان أبو جعفر ظريفا في ظاهره، نظيفا في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقدا لأحوال أصحابه، مهذبا في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطا مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جيء بين يديه بشيء من الفاكهة فيجري في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجدّ جدّ وأحسن علم.
وكان إذا أهدى إليه مهد هدية مما يمكنه المكافأة عليه قبله وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليها ردها واعتذر إلى مهديها. ووجه إليه أبو الهيجاء ابن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها عجب منها ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافأة عنه، ومن أين لي ما أكافىء عن هذا؟ فقيل: ما لهذا مكافأة إنما أراد التقرب الى الله عزّ وجل بهذا، فأبى أن يقبله وردّه إليه.
وكان يختلف إليه أبو الفرج ابن أبي العباس الأصبهاني الكاتب يقرأ عليه كتبه، فالتمس أبو جعفر حصيرا لصفّة له صغيرة، فدخل أبو الفرج الأصفهاني وأخذ مقدار الصفّة واستعمل له الحصير متقربا بذلك له وجاءه به، وقد وقع موقعه، فلما خرج دعا ابنه ودفع إليه أربعة دنانير، فأبى أن يأخذها وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها.
وأهدى إليه أبو المحسن المحرر جاره فرخين فأهدى اليه ثوبا.
وقال أبو الطيب القاسم بن أحمد بن الشاعر [و] سليمان بن الخاقاني: أهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر محمد بن جرير برمّان فقبله وفرقه في جيرانه، فلما كان بعد أيام وجّه اليه بزنبيل فيه بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها. قال سليمان، قال لي الوزير: إن قبلها وإلا فسلوه أن يفرّقها في أصحابه ممن يستحق فصرت بالبدرة إليه، فدققت الباب، وكان يأنس إليّ، وكان أبو جعفر إذا دخل منزله بعد المجلس لا يكاد يدخل إليه أحد لتشاغله بالتصنيف إلا في أمر مهم، قال: فعرفته أني جئت برسالة الوزير، فأذن لي فدخلت وأوصلت إليه الرقعة، فقال: يغفر الله لنا وله، اقرأ عليه السلام وقل له: ارددنا إلى الرمان، وامتنع من قبول الدراهم، فقلت له: فرّقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردّها، فقال:
هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك. وأجاب عن الرقعة وانصرفت. قال أبو الطيب وسليمان: فلما كان بعد مدة قدم الحاجّ وكان يأتيه مال ضيعته معهم، فربما جيء إليه بالشيء فجعله بضاعة، فدعانا وإذا بين يديه شيء مشدود، فقال: امضيا بهذا إلى الوزير واقرءا عليه السلام وأوصلا إليه هذه الحزمة والرقعة، قالا: فصرنا إليه ولا نعرف ما فيها، فلما قرأ الرقعة وإذا فيها «إنه قد أنفذ اليه شيء من طبرستان فآثر إنفاذه إليه» قال فتقدم إلى من فتحه، فإذا فيه سمور حسن، فقوّم له ذلك أربعين دينارا، ولم يجد بدا من قبوله، وكان داعيا إلى امتناعه من الاهداء إليه.
قال: وقد كان يمضي إلى الدعوة يدعى إليها وإلى الوليمة يسأل فيها، ويكون ذلك يوما مشهودا من أجله وشريفا بحضوره، وكان يخرج مع بعضهم إلى الصحراء فيأكل معهم.
قال ابن كامل، قال لي أبو عليّ محمد بن إدريس الجمال، وكان من وجوه الشهود بمدينة السلام: حضرنا يوما مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلا وأظرفهم عشرة، قال: وحضر جماعة من الغلمان على رؤوسنا لسقي الماء والخدمة، قال: فرأيت بعض الغلمان قد مدّ عينه إلى بعض ما قدّم إلينا، فأخذت لقمة فناولتها الغلام، قال فزبرني أبو جعفر وقال: من أذن لك أن تأكل أو تطعم؟ قال: فأخجلني.
قال ابن كامل: ما رأيت أظرف أكلا من أبي جعفر، كان يدخل يده في الغضارة فيأخذ منها لقمة، فإذا عاد بأخرى كسح باللقمة ما التطخ من الغضارة باللقمة الأولى، فكان لا يلتطخ من الغضارة إلا جانب واحد. وكان إذا تناول اللقمة ليأكل سمّى ووضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الزهومة، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده.
قال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد: كان أبو جعفر ربما خرج إلى الصحراء فنخرج معه، فدعانا يوما أبو الطيب ابن المغيرة الثلاج، وكان جارا لأبي جعفر، في محلة ببغداد، فجاء بنا الى قراح باقلّى فأكلنا وأكل أبو جعفر أكلا فيه إفراط، ورأينا من حسن عشرته وانبساطه أمرا عظيما، ثم انصرفنا، فصرت إليه لأعرف خبره من تعبه وما أكله، فإذا بين يديه أدوية وجوارشنات يأكل منها ليدفع بها ضرر ما كان أكله. وكان إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصّق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فيه. قال أبو بكر ابن كامل: ولقد حرصت مرارا أن يستوي لي مثل ما يفعله ويتعذر عليّ اعتياده.
قال: وما سمعته قطّ لاحنا ولا حالفا بالله عز وجل.
قال: وكان لا يأكل الدسم، وإنما كان يأكل اللحم الأحمر الصرف، ولا يطبخه الا بالزبيب، وكان يقول: السمين يلطّخ المعدة؛ وكان يتجنب السمسم والشهد ويقول: إنهما يفسدان المعدة ويغيران النكهة، ويقول: إن التمر يلطخ المعدة ويضعف البصر ويفسد الأسنان ويفعل في اللحم كذا وكذا، فقال له أبو علي الصواف: أنا آكله طول عمري ولا أرى منه إلا خيرا، فقال أبو جعفر: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل. قال: وكان الصواف قد وقعت أسنانه، وضعف بصره، ونحف جسمه، وكثر اصفراره.
قال: وكان أبو جعفر كبير اللحية، حسن القيام على نفسه، لا يأكل من الخبز إلا السميد لأجل غسل القمح لأنّ من مذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهّر نجسا، وكان ربما أكل شيئا من العنب الرازقي والتين الوزيري والرطب، وربما أخذ له من اللبن الحليب من غنم ترعى فيصفّى ويجعل في قدر على النار حتى يذهب منه جزء ثم يثرد في الاناء ويصبّ عليه اللبن الحارّ ويدعه حتى يبرد ويطرح عليه الصعتر وحبة السوداء والزيت، وكان يكثر من الاسفيذباج والزيرباج، وكان ربما أكل بالحصرم في وقته، وكان لا يعدم في الصيف الحيس والريحان واللينوفر، فإذا أكل نام في الخيش في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم فيصلي الظهر في بيته، ويكتب في تصنيفه إلى العصر، ثم يخرج فيصلّي العصر ويجلس للناس يقرىء ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى عشاء الآخرة، ثم يدخل منزله وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل.
وكان أبو الطيب الثلاج قد سأله أن يجعل شربه الماء من عنده، لأنه كان يكره الثلج، وكان له كراز يدفئه فيه. وكان أبو القاسم سليمان بن فهر الموصلي يهدي له العسل ويقبله منه، فلما مات وجد عنده إحدى عشرة جرة عسلا ومنها ما قد نقص منه.
- يوم أبي جعفر:
كان إذا أكل نام في الخيش في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم فيصلي الظهر في بيته، ويكتب في تصنيفه إلى العصر، ثم يخرج فيصلّي العصر ويجلس للناس يقرىء ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى عشاء الآخرة، ثم يدخل منزله وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل.
وكان أبو جعفر إذا دخل منزله بعد المجلس لا يكاد يدخل إليه أحد لتشاغله بالتصنيف إلا في أمر مهم.