قراءة في كتاب
العقائدية وتفسير النص القرآني
المناهج – الدوافع – الإشكاليات – المدونات
دراسة مقارنة
صدر عن مركز نماء للبحوث والدراسات (لعام 1437 هـ / 2016 م) كتاب "العقائدية وتفسير النص القرآني .. المناهج – الدوافع – الإشكاليات – المدونات .. دراسة مقارنة" للباحث الأستاذ/ ياسر المطرفي، وجاء الكتاب في (792) صفحة من القطع المتوسط .
وكان أصل هذا الكتاب رسالة حصل بها الباحث على درجة الماجستير، ثم أعاد الباحث النظر في بحثه، ليقدمه بهذه الصورة التي نتمنى أن نعرض بعض جوانبها للقارئ الكريم .
مدخل مفاهيمي
لقد ظلت العقيدة - في صورتها الأولى - بعيدة عن كل خلاف، تتميز بالتأثير في سلوك الأفراد الذين تلقوها تلقيًا مباشرًا من صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - إلى أن نشب الخلاف بين أفراد الأمة، وكان أول خلاف عقائدي(1) "في تاريخ الأمة على يد الخوارج، وحينها بدأت ملامح التحول في التعامل مع العقيدة تظهر تدريجيًا، وبدأ انتقال العقيدة من طور الانتماء (العام) إلى طور الانتماء (الخاص)، ومن طور التقرير المجمل إلى طور التقرير الجدلي، ومن طور العقيدة كأسس معرفية مسلمة يُؤسس عليها العمل وتُبنى عليها الحركة إلى طور الصراع حولها والعمل على إعادة تأسيسها، فكانت في المرحلة الأولى هي التي تُؤسِّس (تمارس التأسيس) وأصبحت في المرحلة التالية هي التي تُؤسَّس (يمارس عليها التأسيس)!".
"نعم؛ لقد تحولت العقيدة من ذلك التلقي النصي التسليمي المباشر لمباني الإسلام وأصول الإيمان إلى نسق فكري يظهر أحيانا في الدرس العقائدي وتقريراته عند حملة المذاهب والفرق والملل والنحل، ويستتر في علوم أخرى؛ ليعمل في الخفاء فتجد بذوره وآثاره في مدونات الأصول واللغة والتفسير كلما لاحت مناسبة أو عرضت إشكالية".
وهذا الانتقال للعقيدة هو الذي حدا بالمؤلف للتمييز بين الطور الأول، والذي سماه (العقيدة)، وبين الطور الثاني، والذي أطلق عليه مصطلح (العقائدية).
وهذه العقائدية صارت أنساقًا حول مجموعة مقالا متعددة، بل تحولت إلى أنظمة عقائدية متكاملة لكل منها بنيته الخاصة، "لقد ألقى هذا التحول من العقيدة إلى العقائدية بظلاله على النص القرآني، فأصبحت كل طائفة من الطوائف تحاول أن تجد لها في هذا النص منزعًا استدلاليًا تتوصل من خلاله إلى تأسيس مشروعية مقولاتها العقائدية، فتجعل خصمها منازعًا للقرآن وهي الموافقة له".
ودلل المؤلف على الوعي المبكر لدى العلماء بآثار ما سماه (العقائدية) .
وأما أهمية تتبع دراسة (العقائدية) في التفسير، فقد أجاب عنه المؤلف ببيان علاقة النص بالنص المفسر، وبالمفسِّر، وبالمدونة التفسيرية .
اشتغال العقائدية في التفسير (الدوافع - الآليات - المكونات)
اشتمل هذا القسم الأول من الكتاب على مدخل تحدث فيه المؤلف عن مرجعيَّة القرآن كأساسٍ لحضور النزعة العقائديَّة في التفسير، فتفسير النص القرآني كان ولا يزال أحد أهم مساحات الحجاج العقائدي بين الطوائف .
وقد استقرأ المؤلف لذلك أربعة من كتب التفسير، وهي: (السمعاني - القشيري - ابن عطية - الطبرسي)، وهي تفاسير تنتمي لاتجاهات عقدية مختلفة، تمثل (أهل الحديث – المتكلمين – والصوفية وتنتهي بالاتجاه الشيعي)، ولم يغفل المؤلف الاتجاه الفلسفي كذلك .
وقد اعتمد المؤلف تقسيم دوافع الاشتغال إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: دوافع الاشتغال الضرورية .
القسم الثاني: دوافع الاشتغال الحاجية .
القسم الثالث: دوافع الاشتغال التكميلية .
- أما الدوافع الضرورية فتتلخص في اهتمام المفسر بتأسيس معتقده على مرجعية النص القرآني، وذلك بربط العقائد بمرجعية القرآن، وهي ما أطلق عليه المؤلف (التأصيل)، ثم دفع ما يعارض هذا التأصيل، ثم تفعيل تلك المقولات في تفسير النص بعد تأصيلها.
- وتتلخص الدوافع الحاجية في اهتمام المفسر بمدافعة المخالفين له في المعتقد، بمعنى: "سحب المشروعية من تفاسير المخالفين لتثبيت مشروعية تفسيره دون غيره ... ويحفز المفسـر نحو هذه المدافعة أربعة دوافع، هي: نقض مقولاتهم من خلال الاستدلال بعدد من الآيات في ذلك، أو تضعيف استدلالاتهم ببعض الآيات، أو التحذير منهم، أو تنزيل بعض الآيات عليهم".
- أما دوافع الاشتغال التكميلية، فتتلخص في المساحات الحجاجية التي تصنف من باب التتميم والاستطراد العلمي، كإيراد بعض المسائل لأجل محاكاة من ذكرها من أهل التفسير، وغير ذلك من الوجوه .
وقد اعتنى المؤلف – كما هي عادته – بإيراد الشواهد التي تعزز تنظيره من تصرفات المفسرين .
- وبعد أن حدد المؤلف مستويات اشتغال تلك النزعة العقائدية، والدوافع التي تدفع نحوها= بين الآليات التي من خلالها استطاعت تلك الطوائف الاستدلال بتلك النصوص بالرغم من تباين الموقف بينها .
وذكر أن آليات اشتغال العقائدية في التفسير تتلخَّص في أمرين، واحدة تتحكم في نظام التفكير أثناء التفسير، وثانية تتحكم في نظام الممارسة التطبيقية.
فالأولى التي تؤثر في نظام العقل العقائدي في التفسير هي: الانطلاق من العقائد إلى النص، أي: إنَّ العقائد تأتي أولًا، ثم التفسير يأتي ثانيًا .
والثانية هي: التحول من البحث عن المعنى المراد في النص إلى البحث عن المعنى الممكن فيه .
- وعن مكونات اشتغال العقائدية في الاستدلال بالنص، بين المؤلف أنه "إذا تم تفكيك هذه الاستدلالات العقائدية عند مختلف الطوائف، سنجد أنَّها مؤلفة من ثلاثة مكونات:
المكون الأول: الدليل، وهو النص الذي يقصده المفسر لاستنباط المسألة العقائدية منه .
المكون الثاني: المدلول، وهو المسألة العقائدية التي يتبنَّاها المفسر قبل مباشرته للتفسير .
المكون الثالث: الاستدلال، وهو عملية الربط التي أجراها المفسر بين الدليل والمدلول، من أجل أن يستنبط من الآية ما يؤكد صحة مقولاته" .
وإذا كان الدليل عند جميع تلك الطوائف صحيحًا، فإن البحث ينصرف إلى العلاقة بين المدلول والاستدلال، وهي – فيما يرى المؤلف – تأخذ الأشكال التالية:
الشكل الأول: علاقة الاتصال التام .
الشكل الثاني: علاقة الانفصال التام .
الشكل الثالث: علاقة الانفصال الجزئي .
- "وما قِيل في العلاقة ما بين المدلول والاستدلال عند بناء المقولات العقائدية، يمكن أن يُقال في العلاقة ما بين الرد العقائدي والاستدلال على صحة هذا الرد".
وبهذا ينتهي القسم الأول من الكتاب، ليبدأ القسم الثاني، وهو:
"الْـمَنَاهِجُ الْعَقَائِدِيَّةُ فِي التَّفْسِيرِ الْقُرْآنِيِّ".
وتحدث فيه المؤلف عن التفسير القرآني ما قبل العقائدية، وعن أثر التحول نحو العقائدية على حركة تفسير النص القرآني، وجعل المؤلف عصر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – نقطة التحول "مع ظهور أول جدل عقائدي على يد الخوارج الذين غلو في ظواهر النصوص، ثم أخذ الأمر في التطور تدريجيًّا، فيظهر بعد ذلك المنهج الباطني مغاليًا في التأويل، ثم المنهج الكلامي، وانتهى أخيرًا إلى تشكل المنهج الفلسفي آخر هذه المناهج التأويلية ظهورًا، وعلى ذلك استقرت المناهج تقريبًا إلى بداية العصـر الحديث الذي بدأ فيه احتكاك المسلمين بالحضارة الغربية، فأفرز ذلك مناهج تأويلية حديثة أخذت أشكالًا جديدة غير المناهج التأويلية التراثية"، كما أجاب الباحث عن بعض الإشكالات التي قد ترد على هذا التحقيب .
وفي رصد أهم معالم التطور الحاصل في ملامح الحركة التفسيرية، ذكر عدة جوانب:
الجانب الأول: ظهور التساؤلات العقائدية حول النص .
الجانب الثاني: تشكل ملامح الخلاف المنهجي العقائدي في تفسير النص .
الجانب الثالث: ظهور أوائل محاولات توظيف النص القرآني والاستدلال به في معالجة الجدل العقائدي.
- وبعد هذا البحث، تحدث المؤلف عن خصائص التفسير في مرحلة ما قبل العقائدية، وبالتحديد خصائص من تصدى للتفسير من الصحابة رضي الله عنهم، وهو من المباحث التي يستفيد منها المشتغل بالتفسير، لبناء الاحتجاج لأهمية فهم السلف في التفسير، ولأنه معيار لمن جاء بعدهم .
وقد بحث في هذه الخصائص من خلال ثلاث مقاربات تؤثر بشكل كبير في طبيعة اجتهاد المؤول/ المفسر وهي على وجه الإجمال: (لغوية/ استدلالية، واجتماعية، ونفسية).
وأشار إلى مسألة مهمة، وهي الفرق بين الموقفين السني والشيعي في مبدأ التقديم لطبقة معينة في فهم القرآن على غيرهم، ومن ضمن هذه الفوارق: موجب الاختصاص، والقول بالعصمة .
وأجاب كذلك عن الإشكالات المنهجية على منهج تفسير الصحابة، والذي يمكن تلخيصه في أربعة أمور:
الإشكال الأول: إشكال المصادر (الأخذ عن بني إسرائيل).
الإشكال الثاني: إشكال الخطأ في تأويل النص (خطأ بعض الصحابة في الفهم).
الإشكال الثالث: إشكال الجدل حول النص (جدل بعض الصحابة حول بعض الآيات القرآنية).
الإشكال الرابع: التساؤل حول النص .
- وفي الباب الثاني، تحدث المؤلف عن المناهج العقائدية في تفسير النص القرآني.
وحصرها في عدة أطوار، "ففي الطور الأول من ظهور الطوائف، والذي خرجت فيه الخوارج والشيعة، انحازت هذه الطوائف إلى واحد من هذين الخيارين، فالخوارج وهم أول مَن ظهر بمنهج تأويلي للنص بعد منهج الصحابة، تبنوا منهج (الإيغال في الظاهر)، وعلى العكس منهم، وفي زمن مقارب ظهر المنهج التأويلي الثاني عند غلاة الشيعة الأوائل، وتبنوا المنهج المقابل وهو (الإيغال في التأويل) .
أمَّا في الطور الثاني وبعد تشكُّل المنهجين السابقين في حقبة زمنية متقاربة، تشكَّلت مناهج تأويلية تسعى إلى الجمع ما بين (الظاهر والتأويل)، وكان لكُلِّ واحد منهم طريقته في هذا الجمع .
فمنهج أهل الحديث الذي بدأ يترسم وتتحدد معالمه بعد ظهور هذه الخلافات اعترف بالظاهر والتأويل، وحاول التوفيق بينهما، مع الميل إلى اعتبار الظاهر، وهو ما أطلقنا عليه (منهج الوصل الظاهري) . أي: الوصل بين الظاهر والتأويل مع الميل للظاهر.
ويُقابله منهج المتكلمين الذي ظهر بعد ذلك على يد المعتزلة، ثم الأشاعرة والماتريدية، اعترف فيه أصحابه بالظاهر والتأويل، وحاولوا التوفيق بينهما مع الميل للتأويل، وهو ما أطلقنا عليه (منهج الوصل التأويلي)، أي: إنَّهم وصلوا بين الظاهر والتأويل، لكنهم مالوا إلى التأويل .
أمَّا في الطور الثالث والذي خرج فيه الاتجاه الفلسفي، فقد اعترف الفلاسفة بذات الثنائية الظاهر والتأويل، وحاولوا التوفيق بينهما، ولكن من خلال الفصل ما بينهما، وليس الوصل، كما هو حال المتكلمين وأهل الحديث؛ حيث فصلوا بين الظاهر والباطن فجعلوا الظاهر للعامة، والتأويل للخاصة، وانقسموا إلى اتجاهين: المشائين والإشراقيين، وتشكل عنهما ما سميناه: (منهج الفصل المشائي)، و(منهج الفصل الإشراقي).
أمَّا الطوائف الأخرى (الإباضية - الزيدية - الصوفية - الإسماعيلية)؛ فمناهجها في التأويل هي امتداد لواحد من تلك المناهج السابقة.
والخلاصة: إنَّنا إذا أردنا أن نختصـر بنية مناهج التأويل العقائدي في التفسير، فيمكننا القول: إنَّها تدور حول ثنائية (الظاهر والتأويل)" .
- وفي حديثه عن مناهج الانحياز: الظاهر أو التأويل، تكلم المؤلف عن منهج الإيغال في الظاهر (الخوارج)، متحدثًا عن التطورات التاريخية لمسى الخوارج، أبدى فيه مجموعة ملاحظات تمثل الأسس الحاكمة لمنهجيتهم في التفسير .
وأتبع ذلك بالحديث عن امتداد منهج الإيغال في الظاهر، ونبه أن مجمل ما يُمكن تتبعه في حالة امتداد هذه المنهجية في الفرق هو الآتي: (1) القدرية، المرجئة، (2) متقدمي الشيعة الإمامية، (3) غلاة الحنابلة.
وأما منهج الإيغال في التأويل، فقد تحدث فيه عن مسمى التشيع، ومناهجهم التفسيرية، والتي اعتمدت على مبادئ منها: (1) تجاوز الدلالة اللغوية، (2) عدم إمكانية الوصول لتلك الدلالة عن طريق بيان (قائل النص (الله)، ومبلغه (الرسول)، وإنَّما لا بُدَّ لها من طريق خاص، وبالتالي؛ فسينتج عن تجاوز هذين الأمرين مبدآن بديلان، سيظلان حاكمين على عموم المنهج الباطني وهما:
الأول: استبدال مبدأ الدلالة (اللغوية) الظاهرة بمبدأ الدلالة (الرمزية) الباطنة .
الثاني: استبدال مبدأ (عمومية إمكان معرفة المعنى) - من خلال الاعتماد على بيان قائل النص (الله)، أو مبلغه (الرسول) - بمبدأ (خصوصية معرفة المعنى) عن طريق الاعتماد على قول الإمام المعصوم.
"والمبدآن السابقان (الدلالة الرمزية/ الباطنية، وخصوصية معرفته عن طريق اعتماد قول المعصوم أو كشف الولي) سيتم اعتمادهما في عموم مسار الطوائف التي تبنت المنهج الباطني (الإسماعيلية، الشيعة الإمامية، الصوفية)، حتى مع وجود تباينات في المواقف فيما بينها، واختلاف درجات تبنِّي هذا المنهج من طائفة لأخرى".
ثم أتبع ذلك بالحدث عن التأويل الباطني عند الإسماعيلية، والتأويل الباطني عند الشيعة الإمامية، والتأويل الباطني عند الصوفية.
وفي هذا الفصل خلاصات بحثية غاية في الأهمية، وبحث للحظات تقنين كل مذهب من تلك المذاهب، ومراحل تطوره، وبعض تطبيقاته من كتب القوم، مع عقد مقارنات تبين نقاط الاتفاق والافتراق بين هذه المذاهب .
ثم عقد المؤلف فصلًا للحديث عن مناهج الوصل بين الظاهر والتأويل، وهي: منهج الوصل الظاهري، (التوفيق بين الظاهر والـتأويل مع الميل للظاهر)، وهو مذهب أهل الحديث، وتحدث فيه عن الأطوار التي مر بها المذهب العقائدي لأهل الحديث، وتطور منهجهم في التأويل إلى الوصول إلى النظرية التيمية (نسبة لابن تيمية) في التأويل .
والمنهج الوصلي الآخر، هو منهج (المتكلمين)، وهو منهج التوفيق بين الظاهر والتأويل مع الميل للتأويل، تحث فيه عن مفهوم الكلام، والحقب التي مر بها حتى وصلت صياغته النهائية إلى النظر إليه باعتبار وظائفه أو باعتبار موضوعاته .
وفصل الحديث عن المنهج التأويلي الكلامي عند المعتزلة، متبعًا إياه بالمنهج االتأويلي الكلامي عند الإباضية، ثم المنهج التأويلي الكلامي عند الزيدية، فالمنهج التأويلي الكلامي عند الشيعة الإمامية، مختتمًا هذ الفصل بالحديث عن المذهب الرابع، وهو: منهج التأويل الكلامي عند الأشعرية، والماتريدية.
ونبه المؤلف على مفارقة مهمة، وهي تلك "المفارقة التي تستوقفنا عند استعراض مقولات المذاهب الكلامية فيما يتعلق بقانون التأويل الكلامي أن تلك المذاهب قد اعتمدت على ذات القانون الذي استخدمته المعتزلة، وهي في نفس الوقت تتخذ موقف المخالفة للتأويل الاعتزالي".
وختم هذا الفصل بالحديث عن حدود مسلك التأويل، وموقف المتكلمين من حتمية خيار التأويل .
وفي الفصل الثالث، والأخير في القسم الثاني من الكتاب، تكلم المؤلف عن مناهج الفصل بين الظاهر والتأويل، وفيه تحدث عن (الفلاسفة)، ونظرية التوفيق بين الشريعة والفلسفة، ومنهج التأويل المشائي (الفصل بين الظاهر والتأويل)، وختمه بعقد مقارنة بين المنهج الإشراقي والمنهج الصوفي في التأويل.
يبدأ بعد ذلك القسم الثالث من الكتاب، والذي عنون له المؤلف:
تَأْثِيرُ الْعَقَائِدِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ - (الْإِشْكَالِيَّاتُ - الْأَدْوَاتُ - الْـمُدَوَّنَاتُ)
"إذا نحن أجرينا قراءةً راجعةً للمناهج عند مختلف الطوائف في التفسير؛ سنجد أنَّها أنتجت معها أهم الإشكاليات التي ظلَّت مُتحكِّمة في عملية إنتاج التفسير، ويُمكن توضيح ذلك في الجدول التالي:
المنهج | الطائفة | الإشكالية |
الإيغال في الأخذ بالظاهر | الخوارج | إشكالية المحكم والمتشابه |
الإيغال في الباطن | الشيعة | إشكالية الظاهر والباطن |
التوفيق بين الظاهر والتأويل | المعتزلة | إشكالية العقل وظاهر النقل |
التوفيق بين الشريعة والفلسفة | الفلاسفة | إشكالية البرهان والقرآن |
ويعد هذا القسم بمثابة إعادة استخلاص وترتيب لما أنتجته المناهج السابقة".
وتميز هذا القسم بكثرة التطبيق، والتمثيل لأثر هذه الإشكاليات في المدونة التفسيرية، عبر رصد للحضور العقائدي في مدونة التفسير عند أهل الحديث، وعند المنهج الباطني، ومدونة التفسير الصوفية، ومدونة التفسير الكلامية (الإباضية - الزيدية - المعتزلة - الأشعرية - الماتريدية).
وذلك عبر رصد طبيعة التدوين التفسيري لدى تلك الطوائف، ودوافع التدوين العقائدية، والتداخلات العقائدية، وكتب التفسير .
وفي الفصل الأخير، بين المؤلف إلى أيِّ حد ساعد النص القرآني هذه الطوائف المختلفة على إمكانية تلك الاستدلالات المتعارضة والمختلفة فيما بينها، وذلك عبر قضيتين:
الأولى: تحليل طبيعة هذا النص، ومن ثَمَّ مدى قابليته لمثل هذا الاختلاف في الاستدلال.
والثانية: تحليل طبيعة الفهوم المختلفة التي قُدمت في فهم النص، ومن ثَمَّ النظر في أي نوع من اختلاف الفهوم هو الذي يؤثر على مقاصد النص.
ومن اللطائف التي أشار إليها، ذكره التدابير المساعدة على تجاوز ابتلائية التأويل، وذكر أنه يُمكن أن نرجع هذه التدابير إلى أربعة أمور: (صفات النص - لغة النص - مبلغ النص – قارئ النص).
وفي نهاية هذه القراءة:
لقد تميز هذا الكتاب بجدة الطرح، وجودة التحليل، مع إحسان في عرض المادة العلمية، وكثرة الأمثلة الدالة على الفكرة الواحدة .
وختامًا: لم يكن ما سبق إلا لمحات مما تعثر عليه عبر قراءة هذا السفر، والذي يمكن أن يستفيد منه الباحث عمومًا، والباحث في تداخل العلوم - خصوصًا -، وسيجد فيه المتخصص في الدراسات القرآنية بحثًا جديدًا جيدًا يوقفه على أهمية معرفة الاشتغال العقائدي للمفسر، وأثره على منهجه في التفسير، كما يوقفه على فوائد متعددة في تاريخ علم التفسير، والتطورات الحاصلة في المدونة التفسيرية .
(1) تنبيه: كل ما كان بين علامتي التنصيص (") فهو من كلام المؤلف .