الجواب عن اعتراض الشيخ د. حسين الحربي حول عد الإسرائيليات من مصادر التفسير

Dec 26 2020 973

التصنيف

المقالات

شارك المادة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنه لا يخفى على طلاب العلم عمومًا، وطلبة الدراسات القرآنية خصوصًا ما لفضيلة الشيخ الدكتور: حسين بن علي الحربي، من إسهامات جليلة في خدمة الدراسات القرآنية .

وقد اطلعت مؤخرًا على بحث أعده بعنوان: ((الإسرائيليات ليست من مصادر تفسير القرآن)) .

وقد أحببت أن أناقش ما ذهب إليه الشيخ حول هذا الموضوع، لأستفيد أولًا من توجيهاته، ولطرح الرأي الآخر حول الموضوع للكافة .

وقبل أن أدخل في مناقشة كلام الشيخ، فإني أقدم بمقدمات حتى يسير الكاتب والقارئ في مجال تداولي واحد يقطع الطريق على الإشكالات التي يتسبب بها التغاير الاصطلاحي وعدم توارد الألفاظ على محل دلالي واحد.


أولًا: المراد بمصادر التفسير:

يمكننا أن نعرف مصادر التفسير بأنها: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر لبيان معاني القرآن الكريم .

ثانيًا: تقسيم مصادر التفسير:

يمكننا أن نقسم مصادر التفسير إلى نوعين:

1- المصادر الكلية، والمقصود بها: المصادر التي اعتمدها أهل التفسير من لدن الصحابة إلى زمان الناس هذا .

وهي: (القرآن - السنة - اللغة)، وزاد بعضهم: (المعلومات المتعلقة بالنزول: كأسباب النزول والإسرائيليات).

2- المصادر الأخرى، وهي أقوال السلف في التفسير فإنها إحدى المصادر التي اعتمد عليها أهل التفسير في إثبات المعاني .

ثالثًا: معيارية عد المصدر

والمقصود به، متى يعد المصدر مصدرًا من مصادر التفسير ؟

- بالنظر إلى تاريخ عد المصادر، فإن من كتب في هذا الموضوع(1)، ذكر أن ابن تيمية (ت: 728)، هو من أوائل(2) من عد المصادر وسماها (طرق التفسير)(3)، وطرق التفسير عنده، كالآتي:

1- تفسير القرآن بالقرآن .

2- تفسير القرآن بالسنة .

3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة .

4- تفسير القرآن بأقوال التابعين .

5- تفسير القرآن بالرأي .

ملاحظات:

1- أنت ترى أن شيخ الإسلام لم يعد اللغة مصدرًا أو طريقًا من طرق التفسير مع أن سائر من عد المصادر عدها !!

2- أنت ترى أن شيخ الإسلام تكلم عن الإسرائيليات في أثناء كلامه عن تفسير الصحابة، وهذا فيه إشارة أن (الإسرائيليات) من مصادر الصحابة في التفسير ولا يحتاج هذا إلا إلى قليل تأمل .

3- يمكن منازعة الشيخ في عد الرأي من المصادر !

- وممن تكلم عن مصادر التفسير، الإمام الزركشي (ت: 794)، سماها (مآخذ التفسير)(4)، وعد منها:

1- النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

2- الأخذ بقول الصحابي .

3- الأخذ بمطلق اللغة .

4- التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع .

ملاحظات:

1- ترى أن الزركشي أدخل تفسير التابعين في كلامه عن تفسير الصحابة، ولم يعده مصدرًا مستقلًا .

2- ولم يعد الزركشي القرآن مصدرًا من مصادر التفسير كما فعل ابن تيمية !

- وسماه بعضهم: (استمداد علم التفسير)(5).

- أما الذهبي (ت: 1398)، فقد عد مصادر التفسير كالآتي:

مصادر التفسير في عصر الصحابة، وهي(6):

1- القرآن الكريم .

2- النبي صلى الله عليه وسلم .

3- الاجتهاد وقوة الاستنباط .

4- أهل الكتاب اليهود والنصارى .

مصادر التفسير في عصر التابعين(7):

((وقد اعتمد هؤلاء المفسِّرون في فهمهم لكتاب الله تعالى:

1- على ما جاء في الكتاب نفسه .

2- وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

3- وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم .

4- وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم .

5- وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى)).

وهذا نص صريح أن من مصادر التفسير عند الصحابة ما رووه عن أهل الكتاب .

وبعد هذا العرض أقول:

1- يظهر من تصرفات هؤلاء العلماء أن مسألة عد المصادر من الأمور الاجتهادية التي لا قطع فيها، وأنها نسبية، فالصحابة مصدر للتابعين، والتابعون مصدر لأتباعهم وهكذا .

ويظهر أيضًا أنها من الأمور الفنية، فيمكن تنويعها إلى عدة مصادر، ويمكن دمج المصادر فتصير مصدرًا واحدًا، وهكذا ..

2- أن المصادر الكلية هي المصادر للصحابة، ويظهر أنها:

(القرآن - والسنة - اللغة)(8)، ويمكننا عد الصحابة في رجوع بعضهم إلى بعض .

3- أن أهل الكتاب من مصادر الصحابة رضي الله عنهم .

فالمعيار الذي يمكن الحكم به على مصدرٍ ما أنه من مصادر التفسير، رجوع المفسر إليه، وإفادته معنى لكلام الله تعالى .

رابعًا: وجه عد الإسرائيليات من مصادر التفسير

يقول العلامة أبو فهر محمود شاكر:

((ولمَّا رأيتُ أن كثيرًا من العلماء كان يعيبُ على الطبري أنه حشَدَ في كتابِهِ كثيرًا من الرواية عن السالفين، الذين قرأوا الكُتُب، وذكروا في معاني القرآنِ ما ذكروا من الرواية عن أهل الكتابَيْن السالِفَيْن: التَّوراة والإنجيل - أحببتُ أن أكشف عن طريقة الطبري في الاستدلال بهذه الرواياتِ روايةً روايةً، وأبيّن كيف أخطأ الناسُ في فهم مقصده، وأنّه لم يَجْعل هذه الروايات قطُّ مهيمنةً على كتاب الله الذي لاَ يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه. وأحببتُ أن أبيّن عند كُلِّ روايةٍ مقالة الطبريّ في إِسنادِها، وأنه إسنادٌ لاَ تقوم به حُجَّةٌ في دين الله، ولا في تفسير كتابه، وأن استدلاله بها كان يقوم مقام الاستدلالِ بالشِّعر القديم، على فهم معنى كلمة، أو للدلالة على سياقِ جملة))(9).

ففي هذا النص الجليل بيان مهم لوجه عد الإسرائيليات من مصادر التفسير، وأنها تقوم مقام الاستدلال بالشعر واللغة للدلالة على كلمة أو سياق جُملة أو نحو ذلك(10) .

وسأرجع الآن إلى كلام الشيخ د. حسين الحربي، لأجيب عنه، وسأميزه باللون الأحمر:

قال حفظه الله:

((فلقد جمعني اجتماع بثلة من المتخصصين في الدراسات القرآنية ودار حديث حول مسألة الإسرائيليات وجعلها مصدرًا سادسًا من مصادر تفسير القرآن الكريم، وتجاذبنا أطراف الحديث في المسألة، وعلى إثرها طلب مني أخي وصديقي أ.د. عبد الرحمن الشهري أن أكتب وجهة نظري حول المسألة في مقال ينشر في ملتقى أهل التفسير بين يديّ المتخصصين ويعرض للنقاش العلمي المتجرد، والمستند إلى الأدلة الصحيحة المعتبرة، فها أنا أجيبه إلى طلبه، وأعرض بين يديكم ملخصاً مختصراً حول المسألة، آملاً أن تثرى المسألة من حيث الدليل الصالح للاستدلال تعميماً للفائدة، فأقول مستعيناً بالله:

أولًا: بلا خلاف أن المسألة تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: قسم تأصيلي نظري، يؤصل للمسألة ويقرر أن الإسرائيليات من المصادر التي يعتمد الرجوع إليها في تفسير القرآن وبيان معانيه.

ودلالة هذا التأصيل على المسألة دلالة قطعية لا تحتمل غير كونها تفسيرًا للقرآن،

ولا يوجد في كلام أحد من الأئمة المتقدمين والمتأخرين من ينص في تأصيله لمصادر تفسير القرآن على جعل الإسرائيليات مصدرًا قسيمًا لمصادر التفسير المتفق عليها في تفسير القرآن – حسب علمي، ومن لديه فضل علم في هذا فليفدنا به مشكورًا مأجورًا- لأن التنصيص على كونها مصدرًا لتفسير القرآن لا يحتمل شيئًا آخر)).

وفي هذا الكلام نظرٌ من جهات:

1- أن ادعاء الاتفاق على مصادر التفسير لا يُعرف عن أحدٍ من الأئمة المتقدمين ولا المتأخرين كما قد رأيت في البحث أعلاه .

2- أن عددًا من المتأخرين عدَّ الإسرائيليات من مصادر التفسير عند الصحابة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وكالذهبي كما نقلناه عنهما .

ومن المعاصرين: د. مولاي عمر حماد في كتابه: (أصول التفسير)(11)، والدكتور مساعد الطيار في كتابه: (التحرير في أصول التفسير)(12).

وأنقل هنا ما ذكره القاسمي (ت:1332): ((وأما ما كان إسرائيليًا، وهو الذي أخذ جانبًا وافرًا من التنزيل العزيز، فقد تلقى السلف شرح قصصه، إما مما استفاض على الألسنة ودار من نبئهم، وإما من المشافهة عن الإسرائيليين الذين آمنوا ... ومع ذلك فلا مغمز على مفسرينا الأقدمين في ذلك، طابق أسفارهم أم لا))(13).

 وقال: ((...والقصد أن الصالحين كانوا يتقبلون الروايات على عِلاَّتِها للملاحظة المارة، لصفاء سريرتهم. فلا ينبغي إلا تفنيد الموضوع منها، لا الحط من مقامهم وقرض أعراضهم. كيف وقد تلقى الصحابة ومن بعدهم الإسرائيليات وحكوها، بـل بعضهم اقتنى أسفارها وأدمن مطالعتها، لما استبان له من البشائر النبوية، وتحـقـق تحريفهم))(14).


قال حفظه الله:

((والقسم الثاني: قسم تطبيقي بحيث يذكر المفسر بعض الروايات الإسرائيلية مقترنة بتفسير الآية .

ودلالة هذا القسم على المسألة دلالة ظنية وليست قطعية، فهو يحتمل التفسير ويحتمل أن يكون من باب التحديث عن بني إسرائيل، واجتهاد المفسَّر في جعلها قرينة لتفسير الآية استناداً لإذن النبي  في التحديث عن بني إسرائيل، وليس من قبيل التفسير والبيان للقرآن،

وهذا القسم موجود في تفسير بعض السلف والمفسرين من بعدهم، كما أن طائفة منهم أعرض عنها بالكلية.)).

ولتحرير النزاع في هذه القضية أقول:

ماذا لو لم يوجد في تفسير آية أثر من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بيان لمعنى آية أو آيات ؟

ولا يوجد عن السلف فيها إلا ما رووه عن أهل الكتاب (الإسرائيليات) ؟

فإن قلت: هذا لا يوجد .

قلتُ: بل هو موجود .

فإن قلت: أين هو ؟

قلت: في قول ربنا تبارك وتعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]، نقل ما ورد فيها من إسرائيليات لبيان القصة ومعنى الآيات (42) مفسرًا(15) .


قال حفظه الله:

((وفي رجوع من رجع من السلف إلى الإسرائيليات في تفسير القرآن لا يخلو من:

إما أن يكون رجوعهم عن توقيف أو عن اجتهاد.

فإن قيل: عن توقيف: افتقر إلى الدليل ، ولا دليل على التوقيف.

وإن قيل: بل رجوعهم عن اجتهاد .

قيل: وما بال من لم يرجع إليها من السلف أو أنكر سؤال أهل الكتاب، هل كان عن اجتهاد أو عن توقيف ؟

فإن قيل بالتوقيف: لزم الدليل، ولا دليل .)).

قلت:

بل وُجد الدليل، وهو تصريح النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتحديث عن بني إسرائيل، بل غالب المفسرين المتقدمين ولا سيما من الصحابة والتابعين لا بد أن تجد له رواية إسرائيلية، وفيهم المقل والمستكثر، وهذا يشبه الإجماع على جواز ذكرها(16) .


قال حفظه الله:

((وإن قيل : بل عن اجتهاد .

قيل: وما الذي جعل اجتهاد من رجع إلى الإسرائيليات أولى من اجتهاد من لم يرجع إليها؟!

والأصل المقرر عند أهل العلم أن الصحابة إذا اختلفوا فليس قول بعضهم حجة على بعض. ويطلب المرجح من الخارج .

فإذا تقرر هذا بطل الاستدلال بفعل من رجع من السلف إلى الإسرائيليات في تفسير القرآن الكريم ، وأن فعلهم – عند الخلاف - يستدل له ولا يستدل به.

ويبقى من رجع إليها من آحاد المفسرين اجتهاداً له، وتُعرض الإسرائيلية على أدلة الشرع لمعرفة صدقها من كذبها ، وهذا كان منهج عامة المفسرين قديماً وحديثاً، وهو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو منهج مطرد في كل صور تعاطي الإسرائيليات)).

قلت:

أما عدم رجوع بعض المفسرين إليها، فلا نخالف أن أهل التفسير في تعاملهم مع الإسرائيليات بين مقل ومستكثر، وليس معنى عدم رجوع بعض منهم إلى الإسرائيليات - إن ثبت ! - بدليل على عدم الاعتماد عليه كمصدر .

فإن قلت: ثبت عن بعضهم النهي .

قلت: وثبت عن بعضهم الرجوع .

فإن قلت: إذًا بطل الاستدلال .

قلت: هذا إن لم يمكن الجمع .

فإن قلت: هو غير ممكن .

قلت: بل هو ممكن .

فإن قلت: كيف ؟

قلت:

يقول الشيخ د. مساعد:

((الحديث الوارد في النهي، وكذا الآثار إنما هي في طلب الاهتداء بما عند بني إسرائيل، وطلب الاهتداء منهي عنه في كل حين، إذ كيف يكون الاهتداء بما عندهم، وقد أكمل الله الدين؟!

وأما الرجوع إلى أخبارهم وحكايتها، والاستفادة منها، فهي بمعزل عن ذلك النهي.

.. وجمهور المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم قد رجعوا إليهم واستفادوا منهم، ولم يروا في ذلك غضاضة، مع العلم بما في بعضها من اختلاف أو من قضايا مشكلة في منطوق الروايات.

قال القاسمي: « وقال وليُّ الله الدهلويّ - قُدِّس سِرُّه - في أصول التفسير، في فصل الكلام على معرفة أسباب النزول: شرط المفسر أمران:

الأول: ما تعرض له الآيات من القصص، فلا يتيسر فهم الإيماء بتلك الآيات إلا بمعرفة تلك القصص.

والثاني: ما يخصص العام من القصة، أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر، فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات بدونها.

ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السالفين لا تذكر في الحديث إلا على سبيل القلة، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلف المفسرون روايتها، كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب إلا ما شاء الله تعالى. انتهى.

فإذن، لا يخفى أن من وجوه التفسير معرفة القصص المجملة في غضون الآيات الكريمة، ثم ما كان منها غير إسرائيليٍّ. كالذي جرى في عهده ، أو أخبر عنه. فهذا تكفّل ببيانه المحدثون. وقد رووه بالأسانيد المتصلة، فلا مغمز فيه.

وأما ما كان إسرائيليًا، وهو الذي أخذ جانبًا وافرًا من التنزيل العزيز، فقد تلقى السلف شرح قصصه، إما مما استفاض على الألسنة ودار من نبئهم، وإما من المشافهة عن الإسرائيليين الذين آمنوا. وهؤلاء كانوا تلقفوا أنباءها عن قادتهم. إذ الصحف كانت عزيزة لم تتبادلها الأيدي، كما هو في العصور الأخيرة. واشتهر ضنّ رؤسائهم بنشرها لدى عمومهم، إبقاء على زمام سيطرتهم، فيروون ما شاؤوا غير مؤاخذين ولا مناقشين. فذاع ما ذاع»(17).

ويظهر من سبر تعاملهم مع الإسرائيليات وأقوالهم فيها ما يأتي:

الأول: كان مرادهم بإيرادها بيان المعنى العام للآية، وأن الوارد عند بني إسرائيل لا يختلف عن المعنى الإجمالي فيها.

الثاني: أن التفاصيل لا تُصدَّق ولا تُكذَّب إلا بخبر الصادق المعصوم، ولا يكفي في قبولها ورودها في مرويات بني إسرائيل.

الثالث: أن نَهْيَ من نَهَى من الصحابة والتابعين منصبٌّ على واحد من احتمالين:

الاحتمال الأول: ما كان فيه طلب الاهتداء، وعلى هذا يُحمل ما ورد عن ابن مسعود وابن عباس.

الاحتمال الثاني: كثرة سؤالهم، وطلب ما عندهم من الغرائب، وعلى هذا يحمل ما ورد عن الأعمش في شأن مجاهد(18) حيث كان يتقيه الكوفيون لروايته لمرويات بني إسرائيل، ومما ورد من غرائبه في ذلك:

عن الأعمش، قال: «كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب لينظر إليها؛ ذهب إلى حضرموت ليرى بئر برهوت، وذهب إلى بابل - وعليه وال - فقال له مجاهد: تعرض علي هاروت وماروت، فدعا رجلا من السحرة فقال: اذهب به، فقال اليهودي: بشرط أن لا تدعو الله عندهما. قال: فذهب به إلى قلعة، فقطع منها حجرًا، ثم قال: خذ برجلي، فهوى به حتى انتهى إلى جوبة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين، فلما رأيتهما قلت: سبحان الله خالقكما، فاضطربا، فكأن الجبال تدكدكت، فغشي علي وعلى اليهودي، ثم أفاق قبلي، فقال: قد أهلكت نفسك وأهلكتني »(19).

هذا وقد سار كثير من علماء التفسير على نقل هذه الإسرائيليات وتداولها من غير نكير لكثير منها، ولم يقع النكير المطلق إلا عند بعض المفسرين، كالرازي وأبي حيان، ثم استقر الأمر عند كثير من المعاصرين على هذا المنهج))(20)

 وأما قوله:

((وتُعرض الإسرائيلية على أدلة الشرع لمعرفة صدقها من كذبها ، وهذا كان منهج عامة المفسرين قديماً وحديثاً، وهو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو منهج مطرد في كل صور تعاطي الإسرائيليات)).

فلا نخالف فيه، ولا يلزم من رفض بعض الإسرائيليات ألا تعج من المصادر، كما قد ترفض بعض المحتملات اللغوية، ولا يلزم منه أن نخرج اللغة عن كونها من مصادر التفسير .

قال حفظه الله:

((كما أن دلالة قول النبي : "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" على جعل الإسرائيليات مصدراً من مصادر التفسير دلالة ظنية، إذ الإذن بالتحديث عن بني إسرائيل لا يقتضي جعلها مصدراً لتفسير القرآن قولاً واحداً، فالتحديث عنهم من قبيل الإخبار المطلق بقصصهم وأخبارهم، ولا يقتضي أبداً الإحالة عليها في بيان القرآن، وليس من دلالة لفظ (حدثوا) معنى: البيان أو التفسير أو الشرح، ولم أجد ـ على تتبع ـ ورود هذا اللفظ وتصاريفه بهذا المعنى لا في القرآن ولا في السنة ولا في اللغة ولا في عرف السلف – حسب اطلاعي - فالتحديث شيء والتفسير والبيان شيء آخر،

وفي حال جعلها مصدراً لتفسير القرآن سيكون حالها من قبيل الإحالة عليها في بيان القرآن وهو ضرب من ضروب البلاغ عن الله تعالى، إذ بيانها منحصر في بيان معاني لا يمكن إدراكها إلا بخبر عن الله تعالى أو عن رسوله  مقطوع به، وهذا هو وجه الفرق بين البلاغ عن الله وبين مجرد التحديث عنهم، وقد غاير النبي  بين اللفظين كما هو ظاهر في هذا الحديث.

وهذان الدليلان من أمثل ما يستدل به على جعل الإسرائيليات مصدراً لتفسير القرآن.)).

قلت:

أما الحديث فإنا ننازع في دلالته، وهو وإن كان ظنيًا فليس مما يُقطع بعدم دلالته على المراد بدليل فعله هو صلى الله عليه وسلم بالتحديث عن بني إسرائيل وفهم الصحابة عنه مما يجعل الحديث حجة في محل النزاع .

ليس هذا فحسب؛ فإن المانعين ليس عندهم دليل سالم من المعارضة على دعواهم، والمجوزون يستدلون بما لا يخفى على القاري، وله أن يراجعه في محله(21) .


قال حفظه الله:

((ثانياً: بلا خلاف أن الإسرائيليات تنقسم إلى ثلاثة أقسام،

القسم الأول: ما خالف شرعنا، وهذا القسم خارج عن بحث هذه المسألة باتفاق.

القسم الثاني: ما وافق شرعنا، وهذا القسم - فيما أحسب - أنه خارج عن بحث هذه المسألة- أيضاً - اكتفاء في تفسير القرآن وبيانه بما جاء في شرعنا واستغناء به عن ما وافقه من الإسرائيليات.

القسم الثالث: المسكوت عنه، وكامل بحث المسألة يدور على هذا القسم، وعامة أخبار هذا القسم تدور حول مبهمات القرآن، في قصص الأمم السابقة، وبعض المغيبات، والتي لا يمكن الوصول إلى بيان حقيقتها إلا بخبر صادق.

ومنزلة بيان هذا القسم للقرآن منزلة الشك باتفاق - وأحسب أنه لا يخالف في هذا أحد من أهل العلم بالكتاب والسنة - وقد نص النبي  على منزلتها بقوله : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"، وهذا هو معنى الشك، والشك لا قيمة له، فالمشكوك فيه لا يصلح أن يبين المقطوع به، كما أن ما لا يصح في نفسه لا يصح أن يكون تفسيراً وبياناً لغيره، والعبرة في البيان بالصدق والحق والصواب وغلبة الظن ونحوها من المعاني التي تدل على إصابة عين الحقيقة، أو القرب منها، والقرآن حق ومعانيه حق، فلا يحمل على غير الحق يقيناً.

فإذا كانت هذه منزلتها بنص قول النبي  فكيف لنا أن نحيل الأمة إلى الإسرائيليات ونجعلها مصدراً لتفسير القرآن ليأخذوا منها المعاني ويبقَوا منها على شك؟ وما الفائدة المحصلة لهم من هذا الشك؟.

وإذا لم يكن كذلك فهل يمكن لنا أن نقول إن الإسرائيليات تستقل ببيان معنى أو تعيين مبهم دون بقية مصادر التفسير؟

فإن قيل: بـعدم استقلالها ببيان المعاني، فقد رجعنا عن القول بجعلها مصدراً لتفسير القرآن؛ لأن ما لا يستقل بالبيان لا يكون مصدراً.

وإن قيل: بل تستقل ببيان المعاني وتعيين المبهمات دون بقية مصادر التفسير.

قلنا: وهل إذا استقلت ببيان معنى هل يمكن الجزم به معنىً معتبراً في الآية أو لا؟

فإن قيل : لا يمكن الجزم به.

قلنا: هذا رجوع عن القول بجعلها مصدراً من مصادر التفسير؛ لأن ما لا يمكن الجزم بمعانيه لا يمكن أن يكون مصدراً لتفسير كلام الله.

وإن قيل: بل يمكن الجزم بالمعاني والبيان الذي استقلت الإسرائيليات ببيانه.

قلنا: هذا مخالف لنص قول النبي  الصريح الذي لا يحتمل تأويلاً، وهو قوله  "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم".

والقاعدة المقررة عند أهل العلم وهي من أصول الاستدلال عند أهل السنة والجماعة أن ما لا يدرك علمه بالعقل، فلا بد فيه من الخبر الصادق المحض، وهذا المعنى ثابت بأدلة القرآن والسنة القطعية.

ونحن عندما نجزم بجعل الإسرائيليات مصدراً من مصادر التفسير، نقطع بالجزم بصحة بعض أفرادها، وننقلها من باب الاستشهاد إلى باب الاعتقاد، وهذا لا شك أنه باطل، فالإسرائيليات لا يجزم بصحة أي فرد من أفرادها بعكس باقي مصادر التفسير حتى لو تخلله نوع من الاجتهاد، ففيه ما يجزم بدلالته ومنه ما هو دون ذلك.

بينما دلالة صنيع بعض المفسرين لا يتضمن القطع بصحة بعض أفراد الإسرائيليات لعدم القطع بأنها تفسير للآية، وتبقى في بابها تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، كما فعل أئمة التفسير عليهم رحمة الله.

وهذا هو الفرق بين ذكر مبحث الإسرائيليات في التأليف في أصول التفسير ضمن مباحث مناهج المفسرين وبين ذكرها قسيمة لمصادر التفسير الخمسة المتفق عليها.

فإذا تقرر كل ذلك فكيف يستقيم أن نترك الأدلة المقطوع بها، والأصول المسلَّمة عند أهل العلم وننزل على الأدلة الظنية، والمقرر عند أهل العلم أنه لا تترك القطعيات للظنيات والمشكوك فيها.)).

قلت، وفي هذا الكلام نظر من عدة جهات:

1- أن دلالة الإسرائيليات كما سبق هي من باب الاستشهاد في إيضاح مبهم أو تكميل قصة كما يُستشهد بالشعر على بعض المعاني .

2- أنها من باب الظن لا الشك، والظن معمول به .

3- أننا حينما نجزم بصحة بيان بعض الإسرائيليات لبعض الآيات، فإنه كما نجزم بصحة الاستشهاد بشعر من أشعار العرب على معنى بعض الآيات .

4- أن العلماء الذين جوزوا بيان القرآن بالإسرائيليات، إنما جوزوه مع شروط وضوابط .

فإن قلت: فهذا دليل على عدم المصدرية .

قلت: قد أبعدت النجعة، فإن سائر المصادر لها ضوابط وشروط لإعمالها في بيان كتاب الله تعالى، فإن أخرجت اللغة لكونها لا تعمل إلا بشروط فأخرج الإسرائيليات، وإن أثبتها فأثبت الأخرى، وإلا لزمك التناقض .

5- أن التفسير بالإسرائيليات داخل تحت التفسير بالرأي، فلا يرد عليه ما أورده الشيخ، كتفسير المفسر آية بحديث ليس من التفسير النبوي المباشر، أو كتفسير بمحتمل لغوي، فهذا كله من الرأي .


قال حفظه الله:

((وهذا المنهج في التعامل مع الإسرائيليات منهج وسط بين المبالغة فيها ورفعها فوق منزلتها بجعلها مصدراً لتفسير القرآن، وبين الجفاء والتطاول على أئمة السلف وأئمة التفسير بسبب الذين رووها أو ذكروها، وهذه هي طريقة أهل العلم الذين ألفوا في التفسير أو في أصول التفسير من المتقدمين ومن المتأخرين.

أسأل الله تعالى أن يفتح على قلوبنا جميعاً، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.)).

قلت:

آمين .. آمين .. آمين .

وخلاصة الأمر:

1- أن السلف أعملوا الإسرائيليات كمصدر من مصادر التفسير واعتمدوا عليها .

2- أن عد المصادر أغلبه فني لا توقيفي، فلا يصح الاعتراض بعدم ذكر من عد من العلماء المصادر لبعضها .

3- أنه لا سبيل إلى معرفة بعض المعاني (مما أبهم أو أجمل) إلا بالرجوع للإسرائيليات، لأنه قد لا يوجد في تفسير الآية شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هي مما يعرف في اللغة .

4- واقع الروايات يؤيد أن السلف رجعوا للإسرائيليات واعتمدوا عليها، وما ورد عنهم من النهي لا ينهض للاعتراض .

5- ليس معنى وضع الإسرائيليات كمصدر من مصادر التفسير = مساواتها للمصادر الأخرى، بل لا يقول هذا أحدٌ، بل إن المصادر المتفق عليها ليست في مرتبة واحدة من حيث القوة والأهمية، ولا من حيث الاستفادة منها .

6- الاستفادة من الإسرائيليات ليس مفتوحًا، وإنما له مجالاته التي لا يخرج عنها، وله ضوابطه التي تحكمه .

7- لا يلزم من عد الإسرائيليات مصدرًا صحة المعنى المتلقى منها، بل قد يكون المعنى باطلًا، غير أن هذا لا يسوغ إخراجها من المصدرية .

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأسأل الله أن ينفع به، وأن يوفقنا للحق ويبصرنا به، والحمد لله رب العالمين .




(1) انظر مثلًا: علم أصول التفسير محاولة في البناء: (63)، ومقالات في علوم القرآن وأصول التفسير: (127).


(2) عد المصادر أمر قديم تكلم حوله الطبري في مقدمة التفسير، والمقصود بالأولية هنا النسبية عند من ألف في علوم القرآن أو أصول التفسير بشكل مستقل .

وكان من الأولى أن يُتتبع هذا الأمر عبر مقدمات المفسرين بيد أنه يحتاج إلى استقراء ووقت، ولعل الله ييسر به .


(3) مجموع الفتاوى: (13/ 363).


(4) البرهان في علوم القرآن: (2/ 156)، وانظر: محاسن التأويل: (1/ 7).


(5) مبادئ في التفسير، لمحمد الخضري: (13).


(6) التفسير والمفسرون: (1/ 31)، وانظر كلامه عن رجوع الصحابة لأهل الكتاب: (1/ 47 - 48).


(7) السابق: (1/ 76).


(8) لم أعد الإسرائيليات هنا، لأنها محل النزاع .


(9) جامع البيان، ت: محمود شاكر، (1/ 16 - 17).


(10) وقال في نص آخر مهم:

(("تذكرة" تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى "الخليفة"، و"الخلافة"، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى "الخليفة". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم: 605، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس، وما روي عن الحسن في بيان معنى "الخليفة"، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: 465 عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: 353"فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله.

فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا. ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم.

وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرًا)).

جامع البيان: (1/ 453)، وراجع مشكورًا جامع البيان، ت: شاكر: (1/ 453 - 454 - 458).


(11) أصول التفسير: (117)، بل قال: (الذي يترجح لي مؤقتًا أن الإسرائيليات مصدر مهم من مصادر التفسير، لكن بشروطه، أما الاستغناء عنها بالكلية فسيفوت علينا كثيرًا من الأمور) .


(12) التحرير في أصول التفسير .


(13) محاسن التأويل: (1/ 41) .


(14) محاسن التأويل: (1/ 42). وقد ذكر ذلك في فصل نفيس تحت عنوان: (قاعدة في قصص الأنبياء والاستشهاد بالإسرائيليات)، (1/ 40 - 50).


(15) انظر بحث: تفسير القرآن بالإسرائيليات، نظرة تقويمية: (52).


(16) ذكر هذا د. شافي العجمي في بحثه: ((الإسرائيليات بين المتقدمين والمتأخرين)).


(17) محاسن التأويل: (1/ 41).


(18) لم يتوقف كثير من العلماء عن قبول تفسير مجاهد، ولا كانوا يتقونه كما نقل أبو بكر ابن عياش، بل كان إمام التابعين في التفسير، حتى قال سفيان الثوري: «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به».


(19) سير أعلام النبلاء: (4/ 456) .


(20) قال الشيخ: يمكن تقسيم الناس في هذا إلى أقسام:

1- مفسرون ينقلونها دون اعتراض، وهذا كثير في كتب التفسير.

2- مفسرون اعترضوا على كثير منها، إن لم يكن كلها، ومنهم الرازي وأبو حيان.

3- قوم عرَّضوها للنقد والتقويم، ولم يتركوها بالكلية، ولا انتقدوها بالكلية كذلك، ومنهم ابن كثير.


(21) ولا أحب أن أطول بنقله، فراجعه في بحث د. مساعد، د. شافي المحال عليهما سابقًا .


الأكثر شهرة

القائمة البريدية

أدخل البريد الإلكتروني للإشتراك في القائمة البريدية