مقدمات أساسية في تاريخ القرآن العزيز
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وآله وصحبه من بعده، وبعد:
فَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ ... وَأَغْنَى غَنَاءٍ وَاهِبًا مُتَفَضِّلا
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ ... وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلا
ولا يخفى على القارئ الكريم ما لتاريخ القرآن المجيد من أهمية كبرى تتمثل في تثبيت المؤمن على إيمانه، ورد الشاك عن شكه، ولن أطيل في هذه المقدمة، لأدخل إلى أصل الموضوع، وهو عبارة عن مقدمات وصفية لتاريخ القرآن المجيد، هدفها كسر قشرة عدم التصور لمراحل نقل القرآن المجيد، إلى عصر استقرار القراءات، وسوف أعتمد منهج التقرير في هذا المقال دون منهج الرد على الخصوم، ولعلي آتي على منهج الرد في مقال لاحق بإذن الله .
المقدمة الأولى: تعريف القرآن .
القرآن هو: كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته، المعجز بأقصر سورة منه.
ومما ينبغي الانتباه إليه في تعريف القرآن، أنه قد زيد فيه عبر التاريخ ما زيد، فلم يكن الصدر الأول بحاجة في تعريف القرآن بأنه غير مخلوق - مثلًا -، إذ لم يكن هذا الاعتقاد قد ظهر بعد، فلما ظهر زيد في التعريف، ولا حرج منه ! .
وهناك فروق متعددة بين القرآن وغيره من الكتب، ومنها:
1- أن الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن بخلاف غيره من الكتب، قال تعالى في شأن القرآن: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [ الحجر: 9]، أما غيره من الكتب فكما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ﴾ [ المائدة: 44].
لذا فإن القرآن المجيد لا يتطرق إليه التحريف اللفظي، أما التحريف المعنوي (تحريف المعاني) فقد وقع .
2- تيسير حفظه وتلاوته، بخلاف غيره من الكتب السابقة.
المقدمة الثانية: مصادر معرفة تاريخ القرآن.
تتنوع المصادر في معرف تاريخ القرآن، وهذه المصادر إما أن تكون من كتب المتقدمين، أو من كتب من جاء بعدهم:
فيبحث عن تاريخ القرآن في كتب المتقدمين في المصنفات الآتية:
1- الكتب المتعلقة برسم المصحف، كـ (اختلاف المصاحف لسهل بن محمد، أو الرد على من خالف مصحف عثمان، لابن الأنباري، وكتاب المصاحف، لابن أبي داود).
وهذه الكتب يتعامل معها بالمنهج النقدي عند أهل الفن، فما كان صوابًا قبل، وإلا رُد !
2- كتب فضائل القرآن، فقد خصص بعض من كتب في الفضائل كلامًا عن التاريخ .
3- كتب الانتصار للقرآن، كـ (الانتصار لابن الإخشيد المعتزلي، والانتصار للباقلاني، وهو من الكتب المهمة).
4- كتب علوم القرآن، وأجلها (البرهان، للزركشي، والإتقان، للسيوطي، والزيادة والإحسان، لابن عقيلة).
أما كتب المعاصرين، فمنها:
1- تاريخ القرآن، لموسى جار الله الروسي، أحد علماء المسلمين الروس، واسم كتابه: (تاريخ القرآن والمصاحف).
2- تاريخ القرآن، للمستشرق نولدكه، وهو عمدة من جاء بعده من المستشرقين وغيرهم، وقد خرجت عدة ردود عليه، وما زال الكتاب يحتاج إلى مزيد نقد .
3- تاريخ القرآن، لمحمد طاهر الكردي، وله اعتناء بالرسم .
4- مدخل إلى القرآن، لمحمد عابد الجابري، وقد كتبه على منهجه المعروف .
المقدمة الثالثة: منهج التعامل مع القضايا المتعلقة بتاريخ القرآن .
أولًا: تمييز الأسانيد، وتحرير نسبة الأقوال .
لا شك أن لأهل الإسلام تميز لم يكن لغيرهم من الأمم في التعامل مع الأسانيد ونسبة الأقوال إلى أصحابها، وإن من الخطأ البين أن يعمد الناظر إلى التعامل مع صحيح البخاري كتعامله مع كتاب المصاحف لابن أبي داود !
فلا بد إذًا من اعتماد منهج أهل الحديث في التعامل مع الأحاديث والاثار المتعلقة بتاريخ القرآن.
ثانيًا: معرفة الأحوال المتعلقة بالقرآن في الأزمنة المختلفة .
فمسألة الاختلاف في الخط الذي أُخذ منه القرآن - مثلًا -، لا يؤثر على موثوقية نقل القرآن المجيد، إذ الأصل في القرآن في عهد الصحابة كونه مسموعًا محفوظًا في الصدور.
ثالثًا: الانطلاق من النصوص، لا مما تراكم من مصطلحات وآراء هي عرضة للنقد والتمحيص .
المقدمة الرابعة: القرآن الكريم في العهد المكي .
كان أول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمس آيات من أول سورة العلق، ثم فتر الوحي، ونزلت أوائل سورة المدثر، وتتابع نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فيما عُرف بعدُ بالقرآن المكي، وهو ما نزل قبل الهجرة .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه القرآن في مكة، وكان بعضهم يكتب القرآن .
المقدمة الخامسة: القرآن الكريم في العهد المدني .
لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأقام المسجد، كانت تلاوة القرآن من الأمور المشهورة المنتشرة، وهناك مظاهر كثيرة للاعتناء النبوي بإيصال القرآن إلى الصحابة، ومن ذلك:
1- إسماعهم القرآن في الصلاة، والخطب، بل إن بعضهم أخذوا بعض السور من كثرة ترداد النبي صلى الله عليه وسلم لها في الجمعة كسورة (ق والقرآن المجيد).
2- ترتيب الأجر على تلاوة القرآن عامة، وبعض السور خاصة، كالزهراوين .
3- الأخذ الخاص على النبي صلى الله عليه وسلم، كقراءة ابن مسعود عليه، وقراءة زيد.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع في الاختلاف، لذا لم يكن ثم خلاف في القرآن، بل لما حصل خلاف في الأحرف، زال بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك آثار مشهورة في هذا الموضوع .
4- وظهرت آثار هذه العناية على الصحابة، فكان ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالكَهْفِ، وَمَرْيَمَ، وَطه، وَالأَنْبِيَاءِ: «إِنَّهُنَّ مِنَ العِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي». أي: من محفوظي القديم .
بل ظهرت طبقة خاصة سمُّوا فيما بعد بالقراء، وهم الذين استحر بهم القتل في اليمامة، فجمع الصديق القرآن كما سيأتي .
وفي هذه الفترة ظهرت طبقة كتاب الوحي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل شيء من القرآن دعا كاتبًا من كتاب الوحي فكتب له .
ومن كتاب الوحي: (عثمان بن عفان - علي بن أبي طالب - أبي بن كعب - زيد بن ثابت - معاوية بن أبي سفيان).
وكان الصحابة يكتبون القرآن في الأدوات المتاحة لهم، كاللخاف، والرقاع، والأقتاب، والأكتاف .
وخلاصة القول أن تلك الفترة تميزت بالآتي:
1- أن القرآن كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
2- أنه كان مفرقًا في عدد من الأدوات .
3- أنه لم تدع الحاجة إلى جمعه في مصحف واحد، سيما مع وجود زيادة، ووقوع نسخ، ونحو ذلك .
تنبيه: من المسائل المهمة المتعلقة بهذه الفترة، مسألة الأحرف السبعة، والكلام حولها طويل لا يستوعبه مثل هذا المقال، فانظره في مصادر المقال مشكورًا .
المقدمة السادسة: القرآن في عهد الصديق
- روى البخاري [4679]، قصة جمع القرآن في عهد الصديق رضي الله عنه، والسبب الذي دعا إليه أن القتل استحر بالقراء يوم اليمامة، وخُشي أن يذهب كثير من القرآن .
- فأشار عمر على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن، وعرض أبو بكر الفكرة على زيد الذي وافق عليها بعد تردد.
- وقد كان زيد شاب، عاقل، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الصفات أهلته للمهمة.
- فتتبع زيد القرآن يجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وغيرها، وصدور الرجال، حتى تم الأمر على مرأى من الصحابة ومسمع على أدق وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي .
- لم يُستفد مما جمعه الصديق رضي الله عنه استفادة مباشرة في عهده، وعهد عمر، وعهد عثمان إلى جمعه، إذ القصد من الجمع حفظ القرآن، والأصل في التلقي المشافهة والأخذ من صدور الرجال .
- ولم يلزم الصديق ولا الفاروق أحدًا بما جمع، بل كان الصحابة يقرؤون كما أقرأهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك عدة آثار تدل على هذا الأصل .
المقدمة السابعة: القرآن في عهد عثمان
- حصل اختلاف في عصر عثمان رضي الله عنه في القرآن، ففزع حذيفة إلى عثمان فأخبره الخبر، ومما يظهر أن الاختلاف كان في المرسوم، وأن هؤلاء الذين دخلوا حديثًا في الإسلام انطلقوا من المرسوم لا من المحفوظ !.
- فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنهم لترسل له مصحف أبي بكر لينسخه .
- والظاهر من النصوص أن مصحف عثمان كان موافقًا لمصحف أبي بكر في الترتيب وما إلى ذلك خلافًا لمن زعم غيره، ولذا فإن مصحف أبي بكر رضي الله عنه لم يحرق إذ لا مخالفة بينه وبين مصحف عثمان .
- وانتدب لذلك العمل، زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقيل كان معهم غيرهم من الصحابة .
وطلب إليهم أن يثبتوا لسان قريش إذا اختلفوا في الرسم .
- وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
ولا يعلم على التحقيق عدد المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه، وإن كان الأكثر على كونها ستة .
تنبيهات:
1- عمل عثمان رضي الله عنه لا يتعلق بالمقروء، وإنما يتعلق بالمرسوم، فانتبه إلى هذه الفائدة، فإنها تحل لك مغاليق كثيرة !
2- القول بأن عثمان رضي الله عنه أخلى المصاحف من النقط لتحتمل القراءات، قول غير صحيح، لأن النقط لم يكن معروفًا بالأصل عند الصحابة والتابعين، فكيف يقال أنهم تركوه ؟!!
وإن نشأ في أواخر عهد الصحابة لكنه لم يشتهر .
3- لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه عدة مواقف من جمع عثمان رضي الله عنه، ولا يتسع المقال لسردها، وبيانها، فانظره في مصادر المقال .
المقدمة الثامنة: مرحلة ما بعد جمع عثمان رضي الله عنه
- أرسل عثمان رضي الله عنه المصاحف إلى الأقطار .
- وبعد ذلك ظهر المختصون بالإقراء كالأئمة الذين أرسلهم عثمان، وكأبي عبدالرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وغيرهم ممن تنتهي إليهم أسانيد القراء [انظر: مقدمات في علم القراءات: 57].
- وبعد هذه المرحلة ظهرت مرحلة الاختيار في القراءات، فتسبيع السبعة مع الإمام أبي بكر بن مجاهد، أو جعلهم ثمانية، فعشرة على تفصيل يعلم في باب آخر .
المقدمة التاسعة: في قواعد عامة
- أي طعن يوجه للقرآن من جهة عربيته من طاعن متأخر عن أبي جهل، وأبي لهب وأضرابهم، فاعلم أنه باطل في ذاته .
إذ لو كان صحيحًا لما غفل عنه هؤلاء الأعداء، وهم أبصر الناس باللغة، وأحرصهم على الطعن في القرآن .
- لم تسقط كلمة من القرآن، حتى الخلاف في (تجري من تحتها) و(تجري تحتها) لا يوجب القول بأن القرآن سقط منه شيء؛ لأن من قرأ (تجري تحتها) قرأ قرآنًا كاملًا، ومن قرأ (تجري من تحتها) قرأ قرآنًا كاملًا، فهو من اختلاف التنوع .
المقدمة العاشرة: مصادر مهمة لموضوع تاريخ القرآن
1- مصاحف الصحابة، د. محمد الطاسان، ط. التدمرية .
2- المحرر في علوم القرآن (فصل جمع القرآن)، د. مساعد الطيار .
3- جمع القرآن، د. محمد شرعي أبو زيد .
4- المقدمات الأساسية في علوم القرآن، لعبدالله الجديع .
5- جهود الآل والأصحاب في جمع القرآن، ا/ أحمد سالم .
هذا، ولم يكن القصد من هذا المقال إلا كسر قشرة عدم التصور للموضوع كما أسلفت، وإني لأسأل الله تعالى أن يوفقني لخدمة هذا الموضوع، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، والحمد لله رب العالمين .