علم التفسير وسؤال المنهجية
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وآله وصحبه من بعده، أما بعد:
فإن علم القرآن العظيم: هو أرفع العلوم قدرا، وأجلها خطرا، وأعظمها أجرا، وأشرفها ذكرا، وإن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضا، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وإن أجمع ذلك لباغيه، كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذُّخر وسَنَى الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. [مقدمتي الطبري، وابن جزي].
ما السؤال ؟
إنا لنشكو في هذه الأزمان من العشوائية في طلب العلوم على اختلافها، وعلم التفسير من العلوم التي أخذت نصيبها من تلك العشوائية، وقد ظهر مؤخرًا - بحمد الله - توجه للبحث عن المنهجية لتحل بدلًا من العشوائية، ولكن فريقًا انشغل بالسؤال عن (ماذا)، وأصبح هذا السؤال من معوقات التحصيل أيضًا!!، وفي هذه المقالة لن يكون الاهتمام بسؤال (ماذا أقرأ؟)، ولكن سأحاول الإجابة - أكثر - عن سؤال (كيف أقرأ؟).
إن علم التفسير ليس كغيره من العلوم التي وجدت فيها متون يترقى الطالب فيها من متن يصور مسائل العلم، إلى آخر يصور المسألة مع إقامة الدليل، إلى ثالث يضيف دفع الشبهات عن الدليل، وتحرير المسألة .
ولذلك فلا بد أولًا من سؤال ينبني عليه طبيعة الكتب التي ستقرأ، وطريقة القراءة، وهو ما الهدف من قراءتك لكتب التفسير ؟، واختصارًا فإن الناس ينقسمون في قراءة كتب التفسير إلى:
1- مريد لمعرفة معنى الآية الإجمالي، مع إدراك شيء من لطائفها، ليفهم كلام ربه سبحانه وتعالى، إذ كيف يلتذ بكلام الله من لا يعرف معانيه ؟!!
2- طالب علم يريد - إضافة إلى ما سبق - الترقي في هذا العلم كما يترقى في غيره من العلوم .
فأما الأول، فإنه بحاجة إلى أمرين:
1- إدراك غريب القرآن، ويكفيه ما يعينه على إدراك معنى الكلمة من أقرب طريق، ككتاب الشيخ العلامة / مخلوف، أو كتاب د. الخضيري (السراج في بيان غريب القرآن).
2- إدراك المعنى الإجمالي، وهناك كتب ألفت في هذا المجال، وهي كتب يسيرة سهلة، ككتاب التفسير الميسر، أو المختصر في التفسير، أو تفسير العلامة السعدي .
فإن أردا أكثر من ذلك فعليه بمختصرات التفسير، كمختصرات ابن كثير، مع الاستعانة بالكتب التي تهتم بذكر لطائف الآي، ومن الإصدرات التي تفيد هذه الطبقة، كتب الشيخ العلامة/ فريد الأنصاري، والمبدع الأستاذ/ إبراهيم السكران، وإصدرات مركز تدبر .
أما الثاني - وهو موضوع المقالة -، فيحتاج أن يسلك طريقًا تعينه على إدراك مراده، وذلك ما سأجتهد في إبرازه في الآتي، فأقول:
أولًا: إن طالب العلم بحاجة إلى معرفة الفرق بين التفسير وبين المعلومات الموجودة في كتب التفسير، فليس كل معلومة موجودة في كتب التفسير هي من صلب علم التفسير، إذ كل علم له بالقرآن تعلق، وقد يستطرد المفسر في علم برع فيه، فيتكلم عليه في سياقات كلامه عن الآيات .
ثانيًا: إذا علمت ذلك، فإن أولى ما تتوجه إليه العناية أن تعتني بالمعاني، فالتفسير في حقيقته، هو إدراك معاني القرآن، وهي - لعمري - ليست بالهينة، وليس الخبر كالمعاينة وقد يعسر على صاحب الوجد أن يصف الصبابة وصفًا يحقق ما في نفسه في نفس قارئه، فاطلب = تجد .
ثالثًا: أول ما تهتم به - رعاك الله - أن تدرك أمرين اثنين:
1- إدراك غريب القرآن، ومن أيسر كتبه (السراج للخضيري)، وأجلها (مفردات الراغب).
2- إدراك المعنى الإجمالي، فاهتم بالكتب التي تصور المعنى في ذهنك تصويرًا صحيحًا، وابتعد عن الكتب التي كتبت بالأسلوب الإنشائي، فإنها ستشوش عليك ذهنك، ومن الكتب التي أقترحها لك، (التفسير الميسر - المختصر في التفسير - تفسير ابن جزي ط. المنتدى - تفسير ابن أبي زمنين ط. الفاروق، - تفسير الإيجي، جامع البيان ط. غراس).
ومما أختاره وأشجع عليه، أن لا تكتفي في هذه المرحلة بكتاب واحد، بل كن ذا همة، واجمع بين كتابين من كتب التفسير لئلا تتعنى في المرحلة التالية، وهما: (التفسير الميسر، وتفسير الإمام ابن جزي الكلبي ط. المنتدى الإسلامي).
كذلك فابتعد عن بعض الكتب التي راج أنها كتبت للمبتدئ، وإنما غرهم قصرها، وهي في الحقيقة من الكتب التي تحتاج إلى عالم ماهر لما فيها من إلغازٍ واستغلاق، ككتاب الإمامين الجلالين، وكتفسير القاضي البيضاوي.
وفي هذه المرحلة عليك أن تطالع شيئًا في أسباب النزول، مع تكرار قراءة أصلك في التفسير أكثر من مرة، حتى ترى أنك قد استظهرته لتنتقل إلى ما بعده .
واحذر في هذه المرحلة من أن تعيقك الإشكالات، أو الاستطراد في غير فهم المعانى .
رابعًا: بعد هذه المرحلة يلزمك لزامًا أن تطلع على كتب أصول التفسير، وعلوم القرآن، ومناهج المفسرين [راجع: جهود الأمة في أصول التفسير، علوم القرآن تاريخه وتصنيف أنواعه، كلاهما للشيخ د. مساعد الطيار].
خامسًا: بعد هذه المرحلة التي تكون قد أدركت فيها:
1- المعنى الإجمالي، مع معرفة الغريب .
2- وأدركت طرفًا من علوم القرآن وأصول التفسير، ومناهج المفسرين .
3- مع دراستك لمبادئ العلوم الشرعية، إذ هن إخوة لعلات .
فأنت مؤهل للدخول في المرحلة التالية، وأهم ما ينبغي عليك أن تفعله:
((أن تعرف الأقاويل في التفسير)).
وهذا يا رعاك الله، دأب أهل التحقيق من المفسرين، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية فيما حكاه ابن رشيق يقول: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير، ثم قال ابن رشيق: فكتب الشيخ نقول السلف مجردًا عن الاستدلال، على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال، ورأيت له سورًا وآيات يفسرها ويقول في بعضها: كتبته للتذكّر، ونحو ذلك. [الجامع: 238].
ومن الكتب المرشحة لهذه المرحلة، كتاب الإمام ابن الجوزي، (زاد المسير، ط. المكتب الإسلامي، أو دار الفكر)، وهو أحد الكتب التي كان يعتمدها الشيخ تقي الدين.
وفي هذه المرحلة، إما أن تعتمد على قراءتك وذهنك، وإما - وهو المختار - أن تلخص الأقوال مع الاعتناء بتحفظها، ونسبتها إلى أصحابها .
وفي هذه المرحلة، اهتم بمطالعة بعض كتب التفسير المناسبة لمرحلتك، ككتاب الإمام الحافظ أبي الفداء ابن كثير، وكتاب التفسير للإمام ابن أبي حاتم، والدر المنثور للحافظ السيوطي.
والجامع لهذه الكتب هي الاهتمام بجمع الأقاويل في الآيات، مع ما في بعضها من التحرير .
ولا تصلح مذاكرة هذه المرحلة مرة واحدة، ولذلك فأنت لو وضعت زاد المسير كأصل لهذه المرحلة، فاجعل لك مع كل مذاكرة له، أحد كتب التفسير الأخرى المعينة على شيء من التحرير.
سادسًا: وبعد تلك الرحلة - أيها الموفق - فعليك بكتابين عظيمين جليلين، لإمامين من أئمة هذا الشأن، أحدهما الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وكتابه جامع البيان، الذي قال فيه، ((حدثتني به نفسي وأنا صبي، وقال: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وقال بعضهم: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفا بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب.)). [معجم الأدباء لياقوت].
وأما ثاني الأئمة فهو المحقق الفقيه القاضي الإمام أبو محمد ابن عطية، وكتابه المحرر الوجيز، الذي قال في مقدمته، وهي كالشهد حلاوة فارجع إليها: ((وأنا وإن كنت من المقصرين فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيرا من علم التفسير، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير، وعمرت به زمني، واستفرغت فيه منني، إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه، وجعلته ثمرة وجودي، ونخبة مجهودي، فليستصوب للمرء اجتهاده، وليعذر في تقصيره وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل.))، وكم أتمنى أن تقف على تلك المقدمة، لتشاهد مطالع الأنوار، وما احتوت عليه من أسرار.
فابدأ بكتاب الإمام ابن عطية، فافهمه، وقلِّبه، واجعله سميرك، فهو كتاب مؤسِّس لا يستغني عنه طالب هذا العلم الجليل، وهذا الكتاب يحتاج إلى نظر دقيق، وتأمل أنيق .
أما تفسير ابن جرير، فإني أستعفي من الكلام عنه في هذه المقالة.
وعليك في أثناء قراءتك، بالاعتناء بالتالي:
1- معرفة أقوال السلف، مع ضبط ما حدث بعدهم من الأقوال الصحيحة المحتملة .
2- القواعد العلمية التي يستخدمها العلماء من أهل التحقيق .
3- طريقة الوصول للمعنى .
4- مناقشة الاختلاف بين المفسرين، مع توجيه أقوال السلف خصوصًا عند ابن عطية .
5- التعرف على منهجية المفسر، وهي مهمة جدًا في إدراك المؤثرات على المفسر، كعقيدته، أو توجه تفسيره .
ومما ينبغي الاهتمام به، الاهتمام بتطبيقات علوم القرآن في كتب المفسرين، وإنما - نبهت على هذا - لأن كتب التفسير تحتوي على تطبيقات لا توجد في مصنفات علوم القرآن .
نصائح عامة:
1- اقصد البحر وخل القنوات، وأعني بهذا أن تعتني بأصول الكتب لا مختصراتها، فإن كثيرًا من المختصرات من شأنها، أن تبعد عنك الاستفادة من منهجية التعامل مع مشكلات التفسير، وذلك كأن تقرأ مختصرًا لابن كثير (على جودة بعض مختصراته)، فستضيع عندك فائدة تعامل الإمام مع أسانيد التفسير، وهي من الدقائق .
2- الإشكالات في كتب التفسير كثيرة، ولذلك فاحرص على تجاوز هذه الإشكالات، وعدم الإغراق فيها، بل كلٌ بحسبه .
3- اجعل لك كتابًا يكون أصلًا تضيف إليه فوائد الكتب الأخرى أثناء قراءتك، بحيث تستطيع أن تستظهر الأقوال وتوجيها من خلاله .
4- لا بد من العناية بالتعرف على منهج السلف، ومن سار على منهجهم من خلال التطبيقات العملية التي يقومون بها في تفاسيرهم.
5- اعتن بتطبيق أصول التفسير على ما يقرأ من التفسير.
6- معرفة المنهج العام للمفسر، والربط بين معلومات الكتاب، وهذا مما يعين في فهم ما يستغلق من كلام المفسر، وكذلك الرجوع إلى موارد المفسر الأصلية إن أمكن، فقد يتبين من خلال ذلك خطأ في فهم المفسر لمن نقل عنه، كما أن بعض المفسرين يختصر بعض الأخبار والآثار مما قد ينبهم على من يقرأ كلامه، فإذا عاد إلى أصوله التي نقل منها توضح هذا الإبهام. [مستفاد من مقال، للشيخ مساعد الطيار].
7- عليك بقراءة كتب أهل التحقيق من المفسرين ومنهم: (الطبري - ابن عطية - ابن تيمية - أبو حيان - ابن كثير - الشنقيطي - ابن عاشور).
وأخيرًا، لا تحسبن طريق العلم ميسورًا لأهل التكاسل، بل إنه لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وقديمًا قال ابن معطي:
وَ بَعْدُ فَالْعِلْمُ جَلِيلُ الْقَدْرِ ... وَفِي قَلِيلِهِ نَفَاذُ الْعُمْرِ
فَابْدَأْ بِمَا هُوَ الأَهَمُّ فَالأَهَمُّ ... فَالْحَازِمُ الْبَادِئُ فِيمَا يُسْتَتَمُّ
فَإِنَّ مَنْ يُتْقِنُ بَعْضَ الْفَنِّ ... يُضْطَرُّ لِلْبَاقِي وَلاَ يَسْتَغْنِي
هذا، ودونك البحر فانهل، وعن دعوة لأخيك لا تغفل، والحمد لله المحمود في كل حال، والصلاة والسلام على نبيه والآل .