سلطة طرح المفاهيم
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وآله وصحبه من بعده، وبعد...
فإنه قد مرت - ولا تزال تمر - بالأمة أحداث تغيرت معها كثير من المفاهيم، والذي يهمني في هذا المقام تسليط الضوء على المفاهيم الخاصة بالحركة الإسلامية، وقد انقسم الناس إزاء المفاهيم إلى عدة أقسام، كما هو الحال دائمًا:
1- فبين مدافع عن المفاهيم التي يعتنقها، ويدعي بطلان غيرها، بل وينافح عن تلك المفاهيم ويبدع / يكفر من يخالفها في أحيان .
2- وبين من يدعو إلى إسقاط الجميع والإيمان بأفكار جديدة .
3- وبين قوم توسطوا وعمدوا إلى القصد فحاولوا - وما زالوا - إعادة النظر في المفاهيم القديمة بمنهجٍ سديد وفكرٍ رشيد، لإحقاق الحق وتزييف الباطل .
هذا، ولم تخل منظومة المفاهيم من عدة مغالطات ألحقت بها، سأحاول في هذا المقال الكشف عن بعضها، والله يأخذ بنواصينا إليه .
المفاهيم بين الجديد والقديم
انتشرت في الآونة الأخيرة الدعوة إلى عدة مفاهيم جديدة مخالفة للطرح القديم من قبل كثير من الإسلاميين، وهذه المفاهيم التي يراد طرحها منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل .
وتأثر بعض الشباب بالمفهوم الجديد لا لشيء إلا كونه جديدًا، ولا يعدو هذا أن يكون تقليدًا، انتقل إليه - أحدٌ ما - من المفاهيم القديمة التي شعر بأنها أصبحت بالية في عصر ما بعد الثورات!، ساعد على ذلك تساقط من كان يغذي المفاهيم القديمة ممن كانوا يمثلون (رموز - قادة) الحراك الفكري !!!.
والصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه، أن لا يطير المرء مع أي فكرة تطرح، لكونها جديدة فحسب، بل لا بد من عرض تلك المفاهيم على القواعد المنهجية لاختبار صحة هذه المفاهيم من خطأها .
المفاهيم وسلطة العدد
انتشرت بعض المفاهيم في الآونة الأخيرة لا لأنها خضعت لاختبار صحة، وإنما لأن كثيرًا من الناس قد تبناها، خطورة هذه المفاهيم أن من يتبناها يكون عرضة لكثير من التغيرات بسبب عدم ثبات المفهوم في نفسه، بل عدم فهمه له في كثير من الأحيان .
وكمثال على ذلك، الانتقال من (تحريم العمل السياسي) إلى (إباحة أو وجوب العمل السياسي)، وهذا الانتقال لم يوجبه سؤال عن دليل الإباحة، وإنما تأثر بسلطة العدد التي تحولت إلى تجويز العمل السياسي بلا تأصيل فقهي جديد .
وبعض المفاهيم أخذت حظها من الانتشار لأنها التي خالفت السائد، ومثالها واضح جدًا في تطرف بعضهم في جرح الناس، والتعامل معهم ببغي وعدوان، حتى وصلت شهوة التفرد إلى حد رفع سيوف البغي بين بعضهم البعض، والله يهدي إلى سواء السبيل .
المفاهيم والاختزال
من المفاهيم التي عورضت بشدة في الآونة الأخيرة، مفهوم اختزال التدين في بعض العبادات الظاهرة، وهو حق لا شك في ذلك، ثم ظهر جيل عاش في العوالم الافتراضية على رفض هذا المفهوم فحسب، فأصبح هو الآخر - من حيث لا يشعر - في نوع من أنواع الاختزال بعدم المساهمة في رفع الوعي لدى من أصيب بهذا الاختزال، بل أصبح هو مختزل في رفض هذا المفهوم .
والقصد هو السبيل !
المفاهيم واحتكار الحق
من المغالطات التي تنتشر هذه الآونة، احتكار حق تصحيح المفاهيم، مع أن هذه المفاهيم منها ما هو من قبيل الثابت، وهو عند التحقيق قليل، ومنها ما هو من قبيل المتغير، الذي يسع فيه اختلاف وجهات النظر، واحتكار المفاهيم التي تعبر عن الحق هو من أعظم الآفات التي أدت إلى تنافر الحركة الإسلامية وتشتت أبنائها .
المفاهيم والتضخيم
إن كثيرًا من المفاهيم تم تضخيمها، وأخذت أكثر من حقها، وإلا فكيف يكثر الناس من الاهتمام بتصحيح الأفكار، دون إصلاح القلوب !!
إن مفهوم الصلاح الحقيقي لا يرتكز فقط على أن:
- الأخذ من اللحية .
- الإسبال .
- كشف الوجه للمرأة .
- التمذهب.
كلها من المسائل الخلافية التي ضخمتها بعض الحركات بعرض قولٍ واحد دون سائر الأقوال الأخرى.
لا بأس أن تنبه على تصحيح الأفكار، لكن لكلٍ وقته الذي لا ينبغي أن يطغى على حساب أفكار هي في الحقيقة أهم، ومنها: (بناء الإيمان وتعليمه).
المفاهيم والاستفادة من القديم
(كما نعلم أن لكل مذهب عقلاءه وحكماءه، فإنا نعلم أن لكل مذهب سفهاءه ودهماءه، وكما نعلم أن لكل مذهب إيجابياته وإشراقاته، فإننا نعلم أن لكل مذهب سلبياته وشطحاته!) [الفطرية: 55]، وإن الدعوة إلى إحراق القديم لا تجدي نفعًا، فلم لا ندعو إلى الاستفادة من مشوار هذه الحركات، وإعادة تقويمه بما استجد من معارف وأدوات .
المفاهيم، وإعادة الإنتاج
لا بد أن يفكر المصلحون في هذا الزمان في إعادة حقيقية لإعادة إنتاج المفاهيم التي ينبغي على الجيل أن يدركها، إن إعادة بناء الوعي لجيل كان من المقدَّر له أن يُغيَّب لفترة طويلة عن تشكيل حقيقي لوعيه وفكر لحريٌ أن يُحتضن من قبل من منَّ الله عليهم وخرجوا من ذلك التيه بتقدير الله عزوجل وتوفيقه لهم، وإن بعضهم قد عاش في ذلك الجب فحريٌ به أن يتمثل قوله تعالى {كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم} .
ومن تلك المفاهيم التي تحتاج إلى تجلية:
المفهوم الأول: مفهوم الدين، والتدين
ما أصعب على المرء أن يحاول تفسير البدهيات، ولكننا بحاجة إلى البدء حقيقة من هذا المفهوم، ما الدين ؟!!
ما الذي يريده الدين من الناس ؟!!
ما القضايا التي ينبغي أن نبثها في الناس ؟!
إننا انشغلنا كثيرًا عن الاهتمام بقضية الإنسان الكبرى، وإلا فكيف ونحن في سبيل دعوة الناس إلى الدين، ينصب اهتمامنا على تبشيرهم بالجنة الأرضية، وننسى أن نبشرهم بجنة عرضها كعرض السماء والأرض !!
لا بد وأن نعود مرة أخرى لبث الدين في نفوس الناس، لإخراج العباد من عبادة (المادة) إلى عبادة الله رب العالمين .
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [سورة: الزمر].
المفهوم الثاني: مفهوم الدعوة
الدعوة ذلك المفهوم القرآني المأمور به في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، والمثنى على أهله في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
الدعوة هو المفهوم الذي ينتظم الجميع تحت لوائه، فــ (كلنا دعاة)!!
الدعوة إلى الإسلام، والإسلام وحده بعيدًا عن أغلال الجماعات، ومضايق التنظيمات .
الدعوة التي تقوم على:
1- سلامة المعتقد .
2- تصحيح العبادة .
3- تزكية النفس .
الدعوة التي تعلم الناس كيف يفكرون، لا كيف ينقادون !!
الدعوة التي تحمل حقائق القرآن للناس، تلاوة، وتعليمًا، ومدارسة ..
الدعوة التي تخاطب الناس بمجملات الدين، التي تحيي الفطرة في قلوب المدعويين .
المفهوم الثالث: مفهوم الولاية
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] !!
إن مفهوم الاعتصام بالله تعالى، وتوليه، والدخول تحت معيته غاب عن كثيرين منا، وإن الأزمات المتتالية، كان الأصل أن تغذي هذا المفهوم، لا أن يهرع الناس إلى رضا الشرق أو الغرب، بله التعويل عليهم .
هذا المفهوم الذي عبر عنه الكليم حينما تراء الجمعان، وقال أصحابه إنا لمدركون، فرفع صوته هاديًا {كلا، إن معي ربي سيهدين} !!.
المفهوم الرابع: مفهوم الابتلاء
كثيرة هي الأحداث الداعية إلى الإحباط والتشاؤم والاكتئاب، ولكن لا بد أن نعلم أن: ((أولو العزم من الرسل باستثناء خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم= لم يبلغوا مرادهم من أقوامهم وما آمن لهم إلا قليل، وهم خير الرسل وأفضلهم، وهم خير وأفضل عند الله من الأنبياء الذين ظهروا وغلبوا ومكنهم الله في الأرض.
والخلفاء الراشدون لم يفتح لهم في الأرض ويظهروا فيها كما فتح لبني أمية وبني العباس، وهم عند الله أفضل من أولئك.
ونور الدين محمود يقدمه العلماء على غيره، وهو أشبه بالراشدين من صلاح الدين رغم إنه لم يفتح له ما فتح لصلاح الدين .
وأصل هذا الباب كله واحد: أن المنزلة عند الله بالسعي المحقق لأرفع مقامات العبودية، لا بالظهور والغلبة.)) [من كلام لأحمد سالم].
وعليه: فلا بد أن نستدعي أن الحق منصور وممتحن .. فلا تعجب فهذي سنة الرحمن .
وتبقى هناك مفاهيم أخرى تحتاج إلى من يبثها في نفوس الناس، والله أسأل أن يبارك في تبني نشر الوعي لدى الشباب، وأن يعملوا على إنقاذهم مما هم فيه من الحيرة والتخبط .
والحمد لله رب العالمين .
عمرو الشرقاوي
الجمعة الرابع من جمادى الآخرة 1435