أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم؟!

Dec 26 2020 637

التصنيف

المقالات

شارك المادة

يقول الله سبحانه وتعالى:

{وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51)} [العنكبوت: 47 - 51].

أنزلنا إليك الكتاب، بديعًا في فصاحته، وشريفًا في معانيه، وعذبًا في تراكيبه، وهذا القرآن هو السبب في رفعتك، وعلو شأنك، ورفيع منزلتك، وإنه لذكر لك ولقومك !

ولما طلب هؤلاء الجاحدين آية ظاهرة، أرشدهم الله إلى الآية حق الآية، والمعجزة الكبرى، فقال الله لنبيه: {أو لم يكفهم} يا محمد {أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}، ثم ذكر شرط الانتفاع بهذا الكتاب، فقال: {إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} .

((«أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون» ..

وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير، أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن؟

وهو يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم ويشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معني بهم حتى ليحدثهم بأمرهم، ويقص عليهم القصص ويعلمهم. وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير. وهم وأرضهم وشمسهم.. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله. والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم. ثم هم لا يكتفون! «إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون» ..

فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير.

وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور.

فأما الذين لا يشعرون بهذا كله، فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن! هؤلاء المطموسون الذين لا تفتح قلوبهم للنور. هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله! «قل: كفى بالله بيني وبينكم شهيدا، يعلم ما في السماوات والأرض. والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون» ..

وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة. وهو الذي يعلم أنهم على الباطل:

«والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون» ..

الخاسرون على الإطلاق. الخاسرون لكل شيء. الخاسرون للدنيا والآخرة. الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور.

إن الإيمان بالله كسب. كسب في ذاته. والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله. إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الأحداث وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة. وإن هذا في ذاته لهو الكسب وهو هو الذي يخسره الكافرون. و «أولئك هم الخاسرون»))(1).

ونحن - في هذا الزمن - أحوج ما نكون لنذكر أنفسنا بهذه الآية العظيمة، أو لم يكفنا أنا أنزل إلينا الكتاب ؟!

فأين نحن من آياته وبراهينه ؟!

أين نحن من مكابدة القرآن ؟!

ومن لم يكابد حقائق القرآن لهيبًا يشعل باطن الإثم من قلبه فلا حظ له من نوره .

أين نحن من القرآن في هذه الأوقات العصيبة التي نمر، تحصيلًا للسكينة المفقودة، وزرعًا للصحراء التي خلفتها الأيام في قلوبنا ؟!

لقد حكى الله صفات أهل الإيمان الذين أنزل إليهم هذا القرآن، وأخبر عن حالهم عن تنزل الآيات عليهم، فقال: (({الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23] أي: هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد. والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه:

أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات لأبيات، من أصوات القينات.

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال:2 - 4] وقال تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا} [الفرقان: 73] أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم .

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة، رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالقدح المعلى في الدنيا والآخرة))(2).

فهذا القرآن فيه الكفاية لكل شيء .

((فهو كاف في الدعوة والبيان، وهو كاف في الحجة والبرهان))(3).

وهو الشفاء من الأدواء القلبية، ((وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مفصلة، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها. قال: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51] [العنكبوت: 51] ، فمن لم يشفه القرآن، فلا شفاه الله، ومن لم يكفه فلا كفاه الله))(4).

طوبى لمن كان القرآن حجة له، وويل لمن كان القرآن حجة عليه، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها»(5).

وهذا هو القرآن نفسه الذي حول قلوب الصحابة رضي الله عنهم من عبدة للأوثان، إلى قوم وهبوا أنفسهم للرحمن .

لقد كان أحدهم يخشى النفاق على نفسه، يخاف من آيات الوعيد، أما نحن: فحال أكثرنا إذا سمع آيات الوعيد = تذكر غيره، وكيف أن ذاك الغير يفعل ويفعل، وتوجع لحال غيره، فمن يتوجع لحالك يا مسكين ؟!

وأكبر غفلة من يتجرأ على أحكام الله تعالى، فيحل ويحرم، وينسى أنه في مقام التوقيع عن رب العالمين، ناهيك عمن يسحب آيات الوعد والوعيد في هذا وذاك، ويدخل هذا الجنة، ويخرج ذاك منها، ولعمري أين هو عن قول قتادة في قوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون)، إلى قوله: (نحن نعلمهم)، قال: فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس؟ فلانٌ في الجنة، وفلان في النار!

فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري !

لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك !

قال نبي الله نوح عليه السلام: (وما علمي بما كانوا يعملون)، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ)، وقال الله لنبيه عليه السلام: (لا تعلمهم نحن نعلمهم)(6).

إن الخلل الذي حصل بالفعل هو البعد عن كلمات الله، نعم! القرآن كلام الله، فلا بد أن تدخل في ابتلاءات القرآن، تخلقًا بأخلاقه، ومكابدة لحقائقه .

تخيلوا أيها الإخوة لو أننا تحققنا بسورة الصمد - مثلًا -، لو تحققناها بالفعل، ما الذي سيحصل لنا، إنها العجائب وربي !

ولتقف على حقيقة هذا الذي أحكيه لك، وليطمأن قلبك، وتعلم أن هذا القرآن ينبغي أن يكون هو المربي لنا، لترجع إلينا نفوسنا التي تاهت في غياهب الماجريات، فاقرأ معي .

إن المنهاج  قد ذكر في أول التنزيل، وذلك قوله سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3)} [العلق: 1 - 3].

المعرفة أولًا، ووسيلتها القراءة، والقراءة باسم الرب هي غاية العلم، فأبرز الله هنا عنوان الربوبية ليقول لك: (اقرأ لتتربى)(7).

ثم نبهك الله تعالى أنه كلما قرأت أكثر، تعرضت لكرم الأكرم - سبحانه جل شأنه - .

فكيف نقرأ لنتربى، لا بد أن نستقري أحوال أصحاب النبي صلى الله عليه، لنعلم كيف رباهم القرآن، أو كيف رباهم الله بهذا القرآن، وكيف رباهم الرسول بهذا القرآن، ألم يقل الله له، {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} ؟

"أيها الأحبة في الله: إن الله عز وجل اختار لكتابه أمةً وعته، وأحبته وصدقته، فنزل القرآن إلى جذور قلوبها، ففتحت قلوبها للقرآن واطمأنت لموعظة الرحمن، حتى إذا تغلغلت تلك الآيات في الجنان، قادت أهلها إلى المحبة والرضوان.

وإذا نزلت الآيات إلى تلك القلوب، نزلت كالغيث إذا أصاب الأرض الطيبة، فكلام الله مع أحباب الله وأوليائه، يطهرهم لطاعته، ويؤهلهم لمرضاته ومحبته، إذا سمعوا القرآن وجلت قلوبهم لسماعه، فبكيت عيونهم من عظاته، وتحركت أشواقهم لجناته.

كم سمعوا فيه من الآيات التي تفطر القلوب لطاعة رب الأرض والسماوات، سمعوا تلك الآيات فاستقرت في قلوبهم فترجموها في الحياة، حتى أصبح القرآن دليلًا أمام أعينهم.

القرآن الذي أحب الله أهله، واصطفى أولياءه فاختار له رجالًا وأممًا وأجيالًا أحبته من قلوبها وحققته بقوالبها.

فهذه الأمة التي عاشت ليلها مع كتاب الله، ونهارها في تحقيق العبودية لله، ما أفضت إلى الله إلا والقرآن شاهدٌ لها لا شاهدٌ عليها، نزل هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل، فافترق العباد إلى فريقين وطائفتين ونحلتين:

طائفةٍ كذبت ولم تؤمن به، ولم ترض به، فأعرضت عنه وأنكرته وكفرت به، فأذاقها الله الهوان، وألبسها الذل في سائر الأزمان.

وطائفة أحبته واقتربت منه وارتضته، هذه الطائفة المنصورة، أعلامها مشهورة، وفي الخير مشهودة.

أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، الذين أحبوه بقلوبهم وطبقوه بقوالبهم، وهذه الطائفة المحبوبة، والفرقة الناجية المنصورة، يطيب الحديث عنها وعن أخلاق وصفات أهلها، هذه الصفات التي تترجم القرآن في الحياة، أعلاهم وأشرفهم قدرًا هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجيل القرآن أول شواهده وأعظم دلائله: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نزل القرآن يوم نزل، ففتحوا قلوبهم لآياته، وفتحوا قوالبهم لعظاته، فقادهم القرآن إلى الله، فحققوه وطبقوه، حتى أخذوا أرواحهم في أكفهم، يجاهدون في سبيل الله، ويقاتلون أعداء الله، ويوالون أولياء الله بكلام الله.

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين اصطفاهم الله واجتباهم لرؤية منازل القرآن وحوادثه ومعاركه، فكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم والكل يراه، والكل يعلمه ويشاهده، فحققوا القرآن بالعمل، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكل واحدٍ من أصحابه قرآنٌ يمشي على وجه الأرض، فكانت هذه الأمة مع كتاب الله، التي سهرت ليلها وأظمأت نهارها، رهبان الليل وفرسان النهار، بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا أحب الله العبد رزقه أن يسير على نهجهم، فما مات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وخلفوا أشباههم من التابعين، ومن الأئمة المهديين المحبين لكلام رب العالمين، توفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تحكم القرآن في قلوبهم، وترجم في قوالبهم، فغرسوا هذا القرآن في أتباعهم، والسائرين على نهجهم بإحسان.

غرس الصحابة رضوان الله عليهم كلام الله في قلوب التابعين، رجالًا ونساءًا، صغارًا وكبارًا، حتى أحبت القلوب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تبارك وتعالى جمع للصحابة في القرآن خصلتين، قل أن تجتمع لإنسان في الدنيا: خصلة العلم بالقرآن، والعمل به وتطبيقه أمام العيان.

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن بقلوبهم، سهروا معه، فكان الواحد منهم تبكيه الآية وتفرحه الآية، يعيش الوعد والوعيد والشوق والتهديد، فكانوا مع القرآن على الحقيقة، عاشوا مع هذا القرآن، إذا تليت عليهم آيات الجنان طارت قلوبهم شوقًا إلى الروح والريحان، إذا تلا الواحد منهم آيات الجنان كأنه يقطف من ثمارها، ويتكئ على أرائكها، وينظر إلى أشجارها وثمارها وأنهارها، فما أعظمها من أمة، وإذا تلا الواحد منهم الآية التي فيها ذكر النيران، وغضب الواحد الديان، صعق كأن زفير النيران بين أذنيه.

أمة أحبت كتاب الله صدق المحبة، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم به، ويعظهم به، علموا أنه القول الفصل، وأنه الجد لا الهزل الذي يحتاج لمن يحمل همومه وغمومه، ويبادله مشاعره وأشجانه وأحزانه، فإذا أردت أن تنظر إلى جيل القرآن في أبهى صوره، وأجمل حُلله، فانظر إلى تلك الأمة المصطفاة، واقرأ عن سيرة أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

إذا قرأت في سيرتهم لا تدري أتعجب من علمهم بالقرآن! ومعرفتهم لكلام الرحمن!

إذا قرأت سيرتهم لا تدري أتعجب من عملهم بكلام الله، أم بمعرفتهم بأحكام الله وشرائع الله، أم بوقوفهم عند حدود الله وزواجر الله، تعطرك السيرة، وتنفحك السريرة، فتجد الصدق الذي لا كذب فيه، والحب الذي لا شائبة فيه"(8).

 

أولًا: بناء الإيمان

 

إن بعضنا صار يطلب صلاح قلبه، وتزكية نفسه في بنيات الطريق، منا من يطلبها في الأناشيد، أو قراءة رواية حزينة مؤثرة، وهذا - إن وصل - فإنه سلك طريقًا طويلًا، مع كونه مخوفًا أيضًا.

كان أبو القاسم التنوخي يقول: سمعت أبا الحسن الرماني وسئل: كل كتاب له ترجمة فما ترجمة كتاب الله؟ فقال: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به}(9) .

 

هذا القرآن هو النذير الذي يبني الإيمان في داخلك .

عن مطرف، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم «يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء»(10).

لقد أرشد القرآن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بناء العقيدة والتوحيد، وتأملوا سور المفصل مثلًا لتستخرجوا كيف أن القرآن بنى هذه العقيدة في نفوسهم .

﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، وقال - سبحانه -: ﴿لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 163]، ومن الآيات الواردة في سورة الأنعام أيضًا، التي عُنيت بشأن العقيدة وتركيزها، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه؛ قال - تعالى -: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 1 - 3].

وقال - تعالى -: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 13 - 14]، وقال - تعالى -: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 17 - 18].

وقال - تعالى -: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾  [الأنعام: 65].

وقال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 95 - 98]، وقال - تعالى -: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 102، 103]، وقال - تعالى -: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 9]... إلخ.

لقد علمهم القرآن الإخلاص لله عز وجل أنهم بالله لا بأنفسهم، ألا ترى أن القرآن بعد ذكره رحلة الإسراء والمعراج، قال الله تعالى لرسوله: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلًا} [الإسراء: 86].

وقال الله له: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الإسراء: 74].

ومع الصحابة رضوان الله عليهم نجد القرآن يذكرهم بعد كل نصر حققوه على المشركين بأن الذي نصرهم هو الله، لئلا يغتروا بقوتهم، فبعد غزوة بدر ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17].

وبعد الأحزاب: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].

وبعد بني النضير: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الحشر: 2].

 

لقد رباهم القرآن على الأدب مع الله تعالى، والأدب مع رسوله صلوات الله وسلامه عليه .

ومما نزل في تربييتهم على الأدب، ما ورد عن ابن أبي مليكة، قال: "كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} [الحجرات: 2] " الآية قال ابن الزبير: «فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر»(11).

وما ورد عن ابن عباس، قال: قدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلموا , فقالوا: قاتلتك مضر , ولسنا بأقلهم عددا، ولا أكلهم شوكة، وصلنا رحمك، فقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «تكلموا هكذا»، قالوا: لا، قال: «إن فقه هؤلاء قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم»، قال عطاء في حديثه: فأنزل الله جل وعز {يمنون عليك أن أسلموا} [الحجرات: 17] الآية(12).

 

  • وقد يعاتبهم الله تعالى على تقصيرهم:

عن ابن مسعود، قال: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16] إلا أربع سنين"(13).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "أقبلت عير يوم الجمعة، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فثار الناس إلا اثني عشر رجلا، فأنزل الله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} [الجمعة: 11]"(14).

وإن أردت بناء الإيمان، فلتتأمل - مثلًا - قصص الأنبياء، وما فيها من العبر والعظات .

 

  ثانيًا: بناء العبادة

 

كان القرآن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه رضوان الله عليهم، داعيتهم إلى عبادة الله تعالى، والقيام بحقه .

كانوا يقرؤون القرآن في كل وقت، ولذلك تيسرت أسباب العبادة لديهم .

عن أبي بردة، قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، ... وفيه  فقال (أي: معاذ): يا عبد الله، كيف تقرأ القرآن؟

قال: قائمًا وقاعدًا وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقًا.

قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي))(15).

ومن الفوائد العظيمة تنبيه القرآن على الظاهر والباطن، ومن ذلك قوله سبحانه: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا}، وهذه هي الصورة الظاهرة، وأما الصورة الباطنة، فهي: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 39].

وفي البداية كانت {يا أيها المزمل}، لما سئلت عائشة - رضي الله عنها -: ((عن قيام الليل، قالت: ألست تقرأ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن أوَّل هذه السورة نزلت، فقام أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - حتى انتفخت أقدامُهم، وحُبِسَ خاتمتُها في السَّماء اثني عَشَر شهرًا، ثم نزل آخِرُها، فصار قيامُ الليل تطوعًا بعد فريضة))(16).

وعن ابن عباس قال: في المزمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ} نسختها الآية التي فيها {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}.

و{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}: أوله، وكانت صلاتُهم لأول الليل، يقول: هو أجْدَرُ أن تحصوا ما فَرَضَ اللهُ عليكم من قيامٍ، وذلك أن الإنسانَ إذا نام لم يدر متى يستيقظُ، وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلًا}: هو أجْدَرُ أن يفقه في القرآن، وقوله: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} يقول: فراغًا طويلًا(17).

عن ابن عباس قال: لما نزلت أوّلُ المزَّمِّل كانوا يقومون نحوًا مِن قيامهم في شهرِ رمضان، حتي نَزَل آخِرُها، وكان بينَ أولها وآخرها سَنَة(18).

وهذا في الصلاة، أما في النفقة .

فهل تفكرت يومًا وأنت تحمل أطايب الطعام والشراب، في قوله سبحانه، ويطعمون الطعام على حبه

هل فكرت يومًا في مسكين مد يده إليك ؟!

((قال فيض بن إسحاق: كنت عند الفضيل بن عياض فجاء رجلٌ فسأله حاجةٌ، فألح بالسؤال عليه، فقلت: لا تؤذي الشيخ، فزجرني الفضيل وصاح علي وقال لي: يا فيض، أما علمت أن حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم؟ فاحذروا أن تملوا النعم فتحول نقمًا؛ ألا تحمد ربك أن جعلك موضعًا تسأل ولم يجعلك موضعًا تسأل!))(19).

هذا ابن عمر ((كان إذا أعجبه شيء من ماله تقرب به إلى الله عز وجل، وكان عبيده قد عرفوا ذلك منه، فربما لزم أحدهم المسجد ; فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال أعتقه، فيقال له: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له.

وكان له جارية يحبها كثيرا، فأعتقها وزوجها لمولاه نافع، وقال: إن الله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] .

وكان له نجيب اشتراه بمال، فأعجبه لما ركبه، فقال: يا نافع، أدخله في إبل الصدقة.

وأعطاه ابن جعفر في نافع عشرة آلاف دينار، فقيل له: ما تنتظر ببيعه؟ فقال: ما هو خير من ذلك، هو حر لوجه الله))(20).

  • بل ربما كانت الآية الواحدة كفيلة لأن ينفق أحدهم ماله .

عن عبد الله بن مسعود، قال: "لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} [البقرة: 245] قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» . قال: يدك قبل فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي حائطا فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجي قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمائة نخلة"(21).

عن أنس، قال: لما نزلت هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] أو {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} [البقرة: 245]، قال أبو طلحة: [ص:225] وكان له حائط فقال: يا رسول الله حائطي لله، ولو استطعت أن أسره لم أعلنه فقال: «اجعله في قرابتك أو أقربيك»(22).

  • بل قد ينزل القرآن مثنيًا على أخلاقهم وأفعالهم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضم أو يضيف هذا»، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما» فأنزل الله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9](23).

  • وينزل القرآن مذكرًا لهم بأحب الأعمال إلى ربهم .

عن عبد الله بن سلام، قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}، قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير(24).

ثالثًا: بناء الأخلاق

 

سأل قتادة أم المؤمنين عائشة، فقال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «ألست تقرأ القرآن؟» قلت: بلى، قالت: «فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن»(25).

رباهم القرآن على الأخلاق العالية والمراتب السنية، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا»، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: «فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر»، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، «والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله»(26).

وكان القرآن ينزل في عتابهم، وتقويمهم، كيف لا ؟ وقد عوتب سيدهم صلى الله عليه وسلم، وقال الله له: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} [عبس: 1 - 12].

وعن جابر بن عبد الله، قال: " فينا نزلت: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} [آل عمران: 122] بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحب أنها لم تنزل، لقول الله عز وجل {والله وليهما} [آل عمران: 122] "(27).

 

رابعًا: بناء العلم

 

لقد عظم الصحابة رضي الله عنهم القرآن، فأقبلوا على تعلمه وتعليمه، ومعرفة حق العالم به .

عبد الله بن عباس، هذا العالم بالقرآن، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي دعا له قائلًا: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»(28).

وكان عمر يدخله مع أشياخ بدر، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: «إنه ممن قد علمتم» قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال: وما رئيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، فذاك علامة أجلك: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا. قال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تعلم»(29).

وفي السنة التي حُوصِر فيها عثمان، وقُتِل، أرسل ابنَ عباس أميرًا على الحج، وفيها قال أبو وائل: ((خطب ابن عباس - وهو على الموسم - فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: لو سمعته فارس والروم لأسلمت))، وفي رواية أن السورة التي قرأها سورة النور، قال أبو وائل: ((قرأ ابن عباس سورة النور، فجعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت))(30) .

كان القرآن بين عيني ابن عباس يتلمس كل شيء لفهمه، والعمل به .

قال ابن عباس: ((كنت ما أدري ما فاطر السموات حتى احتكم إلى أعرابيان في بئر، قال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها))(31).

وروي من غير وجه عن ابن عباس رضي الله عنهما:

((بينما ابن عباس في المسجد الحرام وعنده ابن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصرين(32)، يسير حتى سلم وجلس.

فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا، فأنشده:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أو رائح فمهجر(33)

حتى أتى على آخرها(34).

فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: الله يا ابن عباس، إنا لنضرب إليك أكباد المطي من أقاصي الأرض لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر

فقال ابن عباس: ليس هكذا قال، قال:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر

قال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت، قال: نعم، وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتكما، قال: فإني أشاء، قال: فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على ابن ربيعة فقال: أنشد، فقال:

تشط غدًا دار جيراننا

فقال ابن عباس: وللدار بعد غد أبعد.

فقال: كذاك قلت أصلحك الله، أسمعته؟ قال: لا ولكن كذلك ينبغي))(35).

 

وختامًا:


إن أردت أن يربيك القرآن، فعليك بخلتين:

1-  كثرة تلاوة القرآن، والحرص على سماعه.

2- الوقوف عند كل آية، وعرض النفس عليها.

"فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه.

قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد فقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى}، أشار إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا، وهذا هو المؤثر، وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 69 - 70]، أي: حي القلب .

وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي: وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.

وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: شاهد القلب حاضر غير غائب، استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله.

فإذا حصل المؤثر؛ وهو القرآن، والمحل القابل؛ وهو القلب الحي، ووجد الشرط؛ وهو الإصغاء، وانتفى المانع؛ وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر= حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر(36) .

وفي نهاية هذه الورقات، أدعوك أيها الحبيب إلى تأمل هذه الآيات:

{إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30) والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35) والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (37) إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38)} [فاطر: 29 - 38].



(1) الظلال: (5/ 2747).


(2) تفسير ابن كثير: (7/ 94).


(3) الجواب الصحيح: (5/ 411).


(4) زاد المعاد: (4/ 323)، الطب النبوي: (267).


(5) صحيح مسلم: (223).


(6) جامع البيان: (11/ 643)، والمحرر الوجيز: (3/ 76).


(7) مستفاد من الشيخ: مصطفى البحياوي .


(8) شريط: جيل القرآن، للعالم الفقيه الشيخ: محمد المختار الشنقيطي .


(9) الإتقان في علوم القرآن: (1/ 184).


(10) أخرج أبو داود: (904)، والحاكم: (971) .


(11) رواه البخاري: (4845).


(12) رواه النسائي في الكبرى: (11455).


(13) رواه مسلم: (3072).


(14) البخاري: (4899).


(15) أخرجه البخاري: (4341)، (4344)، قال ابن الأثير: (يعني قراءة القرآن؛ أي: لا أقرأ وردي منه دفعة واحدة، لكن أقرؤه شيئًا بعد شيء في ليلي ونهاري، مأخوذ من فُواق الناقة؛ لأنها تُحلَب ثم تُراح حتى تُدِرَّ، ثم تُحلب) النهاية في غريب الحديث والأثر، (3/ 480).


(16) أخرجه أبو داود: (1342).


(17) أخرجه أبو داود: (1304).


(18) أخرجه أبو داود: (1305).


تم التطوير باستخدام نظام مداد كلاود لإدارة المحتوى الرقمي بلغات متعددة .