الوحي .. حياته .. والحياة به

Dec 26 2020 1117

التصنيف

المقالات

شارك المادة

الوحي .. حياته .. والحياة به

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام على النبي الأواب، مبلغ الكتاب، والهادي إلى الحكمة والصواب، وعلى الآل والأصحاب، صلاة تدوم إلى يوم الحساب، ويكون لنا بها عند الله زلفى وحسن مآب، وبعد:

فإنه في وسط ظلام دامس = ظهر النور

وفي جهل مطبق = ظهر العلم

وفي صحراء خلفتها عبادة اﻷوثان = رجعت الحياة لقلوب لطالما ظمأت للحق .

في غار حراء يتعبد فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليفجأه أمين الوحي جبريل عليه السلام بما لم يقرع سمعه من قبل، وفي أحداث متلاحقة يستمع إلى الملك يقرأ (اقرأ)، والقراءة باسم الرب (اقرأ، باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق)، وغاية القراءة التربية، (اقرأ وربك اﻷكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).

وبعد هذا الخطاب المليء ظهر الحق، وزال الباطل، وسطعت شمس الرسالة على الدنيا ..

وظل هذا النور مشرقًا في قلوب أهل الإيمان، يرجعون إليه، وينهلون منه، فلم يرو منه إلا خيرا .

((ليتني كنت اقتصرت على القرآن))(1)، ((وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن))(2)، ((ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث، وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين خمسين وستين من عمري، فيا أسفا على عمر ضيعته في أشغال ضرها أكبر من نفعها ! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان))(3).

بهذه الكلمات الصادقة تحسر هؤلاء الأئمة من علماء الإسلام على ما ضاع من أعمارهم في غير معاني القرآن !

وصدق الله إذ يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [سورة: العنكبوت].

إن الكفاية حق الكفاية في الوحي، إقبالًا عليه، وارتشافًا منه، وسيرًا على منهاجه، فالإقبال عليه ليس ترفًا في حياة المؤمن، بل إنه ضرورة = ليحيا .

إن الوحي يذكر المؤمن بحقيقته، من هو ؟

ومم خلق ؟

ومن الذي خلقه ؟

ولماذا خُلق ؟

وإلى أين يصير ؟

هذه الأسئلة الكبرى يجيب عنها القرآن، في عدد من آيه وسوره، وفي سورة ((الإنسان))، تلك السورة التي تتحدث عن الإنسان بدون أي إضافة أخرى، يقول ربنا سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} [سورة: الإنسان] .. إلى آخر السورة .

إن القرآن يذكر الإنسان بحقيقة الدنيا، وأنها متاع الغرور، وأنه إلى الآخرة سائر، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان ((هي الحياة الدائمة الباقية التي لا زوال فيها))، والإنسان إن عاش بهذه الحقيقة سهل عليه أمر الدنيا ..

إن الوحي هو الذي يربي الإنسان على الاعتقاد الصحيح، الاعتقاد الذي لا يهتز، واليقين الذي لا يتزعزع، إنه الإيمان الذي جعل الصحابة يقولون حين قيل لهم {إن الناس قد جمعوا لكم، فاخشوهم!}، جعلهم ينطقون عن اعتقاد راسخ، ويقين شديد {حسبنا الله، ونعم الوكيل}، فكانت النتيجة = إتمام النعمة عليهم، وحلول الرضوان، والنصر من الله سبحانه وتعالى .

وللوحي أثره العظيم في تثبيت القلب أيام المحن، وأوقات نزول البلايا والفتن !

بل إن هذا من مقاصده، كما قال سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]، وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}! [هود: 120] .

والوحي هو السبيل الوحيد لعلاج الأمراض المتعلقة بالروح، تلك النفخة العلوية التي جعل الله الوحي حياة لها ونعيمًا، ترتشف منه في الدنيا قبل الآخرة، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [سورة: الشورى]، ((فمن لم يشفه القرآن، فلا شفاه الله، ومن لم يكفه فلا كفاه الله))(4).

فالوحي هو طريق الاهتداء على الحقيقة !

ألا ترى أن الله حكى قول النبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] .

والوحي هو الذي ابتدأه الله بالحث على القراءة، وحدد منهاجها، فقال سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3)} [العلق: 1 - 3].

المعرفة أولًا، ووسيلتها القراءة، والقراءة باسم الرب هي غاية العلم، فأبرز الله هنا عنوان الربوبية ليقول لك: (اقرأ لتتربى)(5)، ثم نبهك الله تعالى أنه كلما قرأت أكثر، تعرضت لكرم الأكرم - سبحانه جل شأنه - .

ومع قصور المعرفة الإنسانية، وظلمتها في كثير من الأحيان، يكون للوحي دوره الكبير في سطوع شمس الحق، وظهور النور، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [سورة: الإسراء].

وفي البعد عن الوحي تطويل لطريق المعرفة، فإن ((المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده، وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدًا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة .

وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره، أو من أعرض عن غيره .

وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى، وأكثر مقدمات وأطول = كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة .

فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفًا عليها مطلقًا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم، أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته = لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيجب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات، وهذا يسلك معه هذه السبيل))(6).

ولا يقتصر الوحي على الظاهر دون الباطن، بل يمزج بينهما مزجًا، وينبه على أهميتهما معًا، {أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا}، وهذه هي الصورة الظاهرة، وأما الصورة الباطنة، فهي: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 39].

وللوحي أثره العظيم في تحصيل السكينة المفقودة في زمان القلق والاضطراب، فقد جاء الوحي بكون «الصَّلاة نورٌ»(7)، ولفظ النور يوحي بالسكينة والهدوء والراحة، إن الإنسان حينما يتحقق بالصلاة، فإن السكينة تغمره، وكيف لا تفعل، وهو يقبل على الله الذي ينجيه من مخاوفه، وهو يقبل على من بيده ملكوت السماوات والأرض .

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التزام السكينة في حال الإتيان إلى الصلاة، لتحصيلها، «إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»(8).

و((إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك؛ لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال.

فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى، لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها، ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة، فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام، وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها، وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها، فكيف فيها ؟!))(9).

وللقرآن العظيم كبير الأثر في تحصيل هذه السكينة، وتلك السكينة ((إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل))(10).

وفي البعد عن الوحي قسوة القلب، وظلمته، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [سورة: الحديد].

والمؤمن إن استقبل الوحي بشرطه قاده إلى النور، فقد قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [سورة: الزمر].

وطريق استقبال النور هو إدمان النظر في الوحي، وأن يرجع الإنسان إليه البصرة كرة بعد كرة، ليتحقق بابتلاءات القرآن، وليكابد حتى يصل .

ومن المعاني ما كرر في الوحي، وتكراره باب عظيم لإفادة القلب .

إن التعلق ب‍الوحي وملأ النفس به، والصلة بالله عبودية ومحبة وافتقارًا، وقيامًا بالأمر والنهي، والصلاة، والذكر، والصلة، ونفع الخلق = كفيلة بسد حاجة الناس عن كل باب من أبواب اللهو ومتع الفن والجمال أو حتى التعلق بالخلق.

وإن النفس لا تطلب نعيمها ولا سرورها ولا سعادتها من جهة غير جهة الله إلا لنقصها عن مراتب الكمال.

فطلب الناس لغذاء روحي غير الوحي ومتاع العبودية = إنما يرجع لنقص نفوسهم وضعفها، والخلل الموجود في قابلية المحل عندهم للانتفاع بالوحي؛ كالذي لا يعلم من أصناف الطعام إلا الأصناف الشعبية فهو ينفر ولا يقدر على الاستمتاع بالفاخر جدًا من الطعام .. فكثير من الناس لا يجد غذاء روحه في القرآن، وإنما يجده في الأناشيد أو حتى الغناء والموسيقى أو السماع أو سائر فنون الفن والجمال واللهو = لنقص نفسه وقلة صبره على رعاية قلبه حتى ينبت فيه الوحي ثمره، ويعظم ضرر هذا حين يستغني بما يملأ روحه من تلك الأبواب، ويحسب هذا ملأ روح، والوحي ملأ روح، وهو هنا إنما يغفل عن فرق النفع والرواء بين البابين؛ فإنه ليس كل ما يملأ يكون نفعه واحدًا بل ولا خلوه من الفساد واحدًا؛ فإن الوحي مادة تملأ الروح كما لا يملأ غيرها وتنفع كما لا ينفع غيرها، وتروي كما لا يروي غيرها، وتخلو من الضرر كما لا يخلو غيرها، وهذا فرق ما بينها وبين غيرها، والفرق هاهنا لو تعلمون عظيم.

وفي الوحي البصائر التي تنير للسالك طريقه، ليبصر الحق، ويبتعد عن الباطل، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104].

((إن مثل القرآن ومثل الناس في هذا الزمان، هو كثلاثة مسافرين تَاهُوا في الصحراء بليل مظلم! صحاري وظلمات لا أول لها ولا آخر ..! فبينما هم كذلك إذ شاهدوا في السماء نجمًا مُذَنَّبًا لاهبًا، لم يزل يخرق ظلمات الأفق بنوره العظيم، حتى ارتطم بالأرض! فافترقوا ثلاثتهم إزاءه على ثلاثة مواقف:

فأما أحدهما: فلم يُعِرْ لتلك الظاهرة اهتمامًا، بل رآها مجرد حركة من حركات الطبيعة العشوائية!

وأما الآخران فقد هرعا إلى موقع النَّيْزَكِ فالتقطا أحجاره المتناثرة هنا وهناك .. وكانا في تعاملهما مع تلك الأحجار الكريمة على مذهبين:

فأما أحدهما فقد أُعْجِبَ بالحجر؛ لِمَا وجد فيه من جمال وألوان ذات بريق، وقال في نفسه: لعله يستأنس به في وحشة هذه الطريق المظلمة، ثم دسه في جرابه وانتهى الأمر!

وأما الآخر فقد انبهر كصديقه بجمال الحجر الغريب! وجعل يقلبه في يده، ويقول في نفسه: لا بد أن يكون هذا المعدن النفيس القادم من عالم الغيب يحمل سِرًّا! لا يجوز أن يكون وقوعه على الأرض بهذه الصورة الرهيبة عبثًا! كلاَّ كلاَّ! لا بد أن في الأمر حكمةً ما! ثم جعل يفرك حجرًا منه بحجر، حتى تطاير من بين معادنه الشَّرَر ..! وانبهر الرجل لذلك؛ فازداد فركًا للحجر، فازداد بذلك تَوَهُّجُ الشَّرَرِ .. وجعلت حرارة معدنه تشتد شيئًا فشيئًا؛ حتى وجد ألم ذلك بين كفيه! بل جعلت الحرارة الشديدة تسري بكل أطراف جسمه، وجعل الألم يعتصر قلبَه، ويرفع من وتيرة نبضه ..! لكنه صبر وصابر، فقد كان قلبه - رغم الإحساس بالألم والمعاناة - يشعر بسعادة غامرة، ولذة روحية لا توصف !.. وما هي إلا لحظات حتى تحول الحجر الكريم بين يديه إلى مشكاة من نور عظيم! ثم امتد النور منها إلى ذاته، حتى صار كل جسمه سَبِيكَةً من نور، وكأنه ثريا حطت سُرُجَهَا ومصابيحَها على الأرض! وجعل شعاع النور يفيض من قلبه الملتهب فيعلو في الفضاء، ويعلو، ثم يعلو، حتى اتصل بالسماء !..

كان الرجل يتتبع ببصره المبهور حبل النور المتصاعد من ذاته نحو السماء، حتى إذا اتصل بالأفق الأعلى تراءت له خارطة الطريق في الصحراء! واضحة جلية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك! ووقع في قلبه من الفرح الشديد ما جعله يصرخ وينادي صاحبيه معًا: أخويَّ العزيزين!.. هَلُمَّا إِليَّ!.. إِليَّ! لقد وجدت خارطة الطريق!.. لقد من الله علينا بالفرج..! أخويَّ العزيزين!.. اُنْظُرَا اُنْظُرَا!.. هذا مسلك الخروج من الظلمات إلى النور! شَاهِدُوا شُعَاعَ النورِ المتدفق من السماء.. إنه يشير بوضوح إلى قبلة النجاة!.. فالنجاةَ النجاةَ!

أما الذي احتفظ بقطعة من الحجر في جرابه فلم يتردد في اتباع صاحبه والاقتداء بهديه؛ لأنه كان يؤمن بأن لهذا المعدن الكريم سِرًا! ولقد أبصر شعاعه ببصيرة صاحبه، لا ببصيرة نفسه!

وأما الأول الذي لم ير في النجم الواقع على الأرض شيئا ذا بال؛ فإنه رغم نداء صاحبه له لم يبصر شيئًا من أمر الشعاع المتدفق بالهدى! لقد كان محجوبا باعتقاده الفاسد، فلم تَعْكِسْ مِرْآةُ قلبِه الصَّدِئَةُ نورًا! ولذلك لم يصدق من نداء صاحب النور شيئًا من كلامه، بل اتهمه بالجنون والهذيان! ومضى وحده يخبط في الصحراء، ضاربًا في تيه الظلمات! {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ!} [النور: 40].

ثم انطلق الرجلان المهتديان يسيران في طريق النور .. وإنما هما تابع ومتبوع، فالمتبوع داعية يرى بنور الله .. ويسير على بصيرة من ربه؛ بما كابد من نار الحجر وشاهد من نوره! والثاني مؤمن بالنور مصدق بدعوة صاحبه، يسير على خطاه وهديه.. ولكنه يكابد في سيره عثرات من حين لآخر وهَنَاتٍ؛ وذلك بسبب ما يلقي إليه الشيطان من وساوس ومخاوف! وليس لديه ما يدفع به كيد الشيطان إلا ما يتلقى عن صاحبه!

وبينما هما كذلك يسيران مطمئنين في طريقهما، إذْ سأل الرجلُ التابعُ صاحبَه المتبوع فقال: أناشدك الله أن تخبرني كيف اكتشفت سر النور في هذا الحجر الكريم!

لكن صاحب النور وجد أن اللغة عاجزة عن بيان حقيقة النور لصاحبه، فما كان منه إلا أن دس قطعة من الحجر الذي كان بين يديه في كف السائل؛ فصرخ الرجل من شدة حر الحجر الكريم والتهابه! وجعل يقلبه بين يديه ثم ألقاه بسرعة في كفه صاحبه! لكن صاحب النور قبض عليه بيد ثابتة مطمئنة! فعجب منه رفيقه وقال: إنما أنت قابض على الجمر!

قال: نعم، هو كذلك! إنه القبض على الجمر! لكن لذة الروح بما يشاهد القلب من نور، وبما يجد من سعادة غامرة؛ ترفع عن الجسد الشعور بالألم، وتمنع حدوث الاحتراق! وإن نار الشوق والإيمان لهي أقوى ألف مرة ومرة من نار الكفر والفسوق والعصيان! ولو وقعت الأولى على الثانية؛ لجعلتها سلامًا وأمانًا على قلب العبد المؤمن! {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ! قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ! وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ!} [الأنبياء: 68- 70].

نعم يا رفيقي في طريق النور! إن مكابدة القرآن في زمان الفتن، والصبر على جمره اللاَّهِبِ في ظلمات المحن؛ تلقيًّا، وتزكيةً، وتدارسًا، وسيرًا به إلى الله في خلوات الليل؛ هو وحده الكفيل بإشعال مشكاته، واكتشاف أسرار وحيه، والارتواء من جداول روحه، والتطهر بشلال نوره .. النور المتدفق بالحياة على قلوب المحبين، فيضًا ربانيا نازلًا من هناك، من عند الرحمن، الملك الكريم الوهاب!))(11).

فدونك الوحي .. فتعرض له !

وإذا أقبلت إلى الوحي فأنصت = فإنها رسائل الله إليك !

وأتم النور ما توقده أنت بقلبك، وتعانيه بنفسك ..




(1) من كلام سفيان الثوري، انظر: تاريخ ابن معين، رواية ابن محرز: (2/ 159)، والعلل، للإمام أحمد: (1083).


(2) من كلام ابن تيمية، انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام: (284).


(3) من كلام الفراهي، انظر: مقدمة مفردات القرآن: (20).


(4) زاد المعاد: (4/ 323)، الطب النبوي: (267).


(5) مستفاد من الشيخ: مصطفى البحياوي .


(6) الرد على المنطقيين: (254 - 255).


(7) مسلم: (223).


(8) مسلم: (602).


(9) القواعد النورانية: (83).


(10) مدارج السالكين: (2/ 473).


(11) هذه رسالات القرآن، للشيخ د. فريد الأنصاري .


الأكثر شهرة

القائمة البريدية

أدخل البريد الإلكتروني للإشتراك في القائمة البريدية